عندما تولى فلاديمير بوتين منصب الرئيس المؤقت لروسيا في آخر يوم من القرن العشرين، كان الجاسوس السابق يشكل لغزاً للكثيرين. في هذا السياق، نلقي نظرة على كيفية تجاوز هذا الزعيم المفاجئ طفولته الصعبة ليصل إلى قمة السلطة في الكرملين.

في 31 ديسمبر/كانون أول 1999، أعلن الرئيس الروسي بوريس يلتسين بشكل مفاجئ استقالته، قائلاً للمشاهدين عبر التلفاز: "يجب على روسيا أن تدخل الألفية الجديدة مع سياسيين جدد، وجوه جديدة، وأشخاص أذكياء، أقوياء، ومفعمين بالطاقة".

في ظل الفساد المستشري والمشاكل السياسية والاجتماعية الكبرى، أصبح حكم يلتسين غير محبوب بشكل متزايد وغير قابل للتنبؤ. ورغم دوره البارز في الإطاحة بالاتحاد السوفيتي عام 1991، فإن فترة رئاسته كانت فترة مؤلمة لروسيا أثناء تحولها من اقتصاد تديره الدولة الشيوعية إلى اقتصاد السوق الحرة.

عند منتصف الليل، ألقى فلاديمير بوتين، الوريث المنتظر ليلتسين – الوجه الجديد للألفية الجديدة – أول خطاب تلفزيوني له كرئيس مؤقت.

وقال في خطابه: "لن يكون هناك فراغ في السلطة"، موجهاً تحذيراً بالقول: "أي محاولة لتجاوز حدود القانون والدستور الروسي سيتم القضاء عليها بحزم".

وقد حظي بوتين، الذي يتمتع بجسم رشيق وصحة جيدة وعقلية هادئة، بشعبية كبيرة في بلد اعتاد على التصرفات المتقلبة ليلتسين، والذي كان في كثير من الأحيان في حالة سكر وغير صحي لدرجة أن مجرد وصوله إلى مكتبه كان يعتبر خبراً صحفياً.

 الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على اليمين، مع والديه في عام 1985 قبل مغادرته إلى ألمانيا.
Getty Images
وُلد بوتين عام 1952، عقب حصار لينينغراد الذي قتل شقيقه الأكبر ونجا منه والداه بصعوبة

عندما أصبح بوتين رئيساً للوزراء في أغسطس/آب 1999، كان قد عمل سابقاً في جهاز الاستخبارات السوفيتي، جرى اختياره من بين أشخاص يمتازون بالغموض. وبحلول نهاية العام، عندما تولى منصب الرئيس بالوكالة، كان قد نال شعبية كبيرة بسبب موقفه الصارم من الحرب في جمهورية الشيشان المنشقة.

وعندما أجريت الانتخابات في مارس/آذار 2000، جرى اختيار بوتين رئيساً بعد أن حصل على نحو 53% من الأصوات في الجولة الأولى. وأظهرت استطلاعات الرأي أن غالبية الروس كانوا يريدون الاستقرار الاقتصادي قبل أي شيء آخر. وكانت الرسالة الأساسية التي وجهها بوتين إلى الناخبين هي أنه سيعيد القوة لروسيا.

صعد الزعيم الجديد لأكبر دولة في العالم إلى القمة بينما ترك آثاراً قليلة خلفه. وكان من الواضح أن الرجل البالغ من العمر 47 عاماً يحب أن يظهر ويتحدث بشكل صارم – فهو حائز على الحزام الأسود في الجودو وكان يطلق تصريحات مثل وصف المخالفين للقانون بـ "الفئران التي يجب سحقها". لكن، كيف كان في الحقيقة؟

نشأ بوتين في سانت بطرسبرغ، التي كانت تعرف آنذاك بلينينغراد. تأسست المدينة على يد القيصر بطرس الأكبر، وكانت مدينة متأثرة بشكل كبير بالغرب ولكنها تحتفظ أيضاً بصدى من ماضي روسيا الإمبراطوري العظيم.

تحدثت "بي بي سي" في عام 2001 إلى مدرب بوتين القديم في الجودو، أناتولي راكلين، الذي قال إنه كان طالباً نجماً وكان لديه القدرة على الانضمام إلى الفريق الأولمبي.

وأوضح راكلين أن بوتين كان دائماً عازماً على الفوز، وإذا لم يكن بالقوة الجسدية، فكان يستخدم الذكاء للتغلب على خصومه: "كان قادراً على الضرب بمهارة متساوية في كلا الاتجاهين، اليسار واليمين. وكان خصومه، الذين يتوقعون ضربة من اليمين، لا يتوقعون الضربة من اليسار، لذا كان من الصعب جداً على خصومه هزيمته لأنه كان يراوغهم طوال الوقت."

وُلد بوتين عام 1952، بعد سبع سنوات من نهاية الحرب العالمية الثانية، عقب حصار لينينغراد الذي قتل شقيقه الأكبر ونجا منه والداه بصعوبة. نشأ في شقة جماعية مكتظة بالعائلات، مع مطبخ وحمام مشتركين، وكانت تعج بالفئران والصراصير.

ويتذكر في سيرته الذاتية كيف كان عليه كطفل أن يقاتل الفئران على الدرج. كتب قائلاً: "ذات مرة رأيت فأراً ضخماً وطاردته في إحدى الغرف حتى دفعته إلى الزاوية. وفجأة هاجمني وألقى نفسه عليّ. قفز من الدرج وسقط إلى أسفل السلالم."

ووفقاً للبروفيسورة نينا خروشوفا، حفيدة رئيس الوزراء السوفيتي السابق نيكيتا خروشوف، فإن نبرة حكاية الفأر المحاصر الشهيرة التي يرويها بوتين تصبح أكثر أو أقل عدوانية اعتماداً على الجمهور الذي يتحدث إليه.

وفي حديثها في بودكاست "بوتين" الذي بثته "بي بي سي" عام 2023، قالت: "يختار بوتين سرد هذه الحكاية باستمرار ليظهر كيف نشأ في بيئة متواضعة ومدى ما وصل إليه، وما هي نوعية الأعداء الذين كان عليه أن يتحملهم طوال حياته؛ كيف بدأ بتحمل أضعف الكائنات، ثم انتقل لمواجهة جميع أنواع الأعداء؛ الأجانب والمحليين."

في الظل

قالت صديقة طفولة بوتين ماريا أوسورينا، وهي عالمة نفس، في مقابلة مع "بي بي سي" عام 2003 إن البيئة القاسية التي نشأوا فيها كانت "صراعاً من أجل البقاء".

وأضافت في وصف بوتين: "كان صغيراً ونحيفاً وضعيفاً إلى حد ما، لأنه وُلد لوالدين مسنين، لذلك كان من المهم جداً بالنسبة له أن يكون قوياً حتى لا يُضرب."

وأوضحت أن الأسرة كانت تتمتع بقيم قوية من الوطنية والولاء.

"كان والداه يحبانه كثيراً. كان بالنسبة لهم مركز العالم، الابن الذي طالما تمنوه. لكن شخصيتهما كانت متحفظة بطبعهما – لم يظهرا مشاعرهما الحقيقية. كان الأب بارداً ظاهرياً، وكذلك والدته. لم يكن ليخطر ببالهم حتى فكرة تقبيل ابنهم في الأماكن العامة – لم يكن ذلك ليخطر على بالهم أبداً"، تقول أوسورينا.

فلاديمير بوتين
Getty Images
"كان من المهم جداً بالنسبة له أن يكون قوياً حتى لا يُضرب"

كان أصدقاء ومعارف بوتن يتذكرونه شاباً ذكياً ولكنه متحفظ ومستقل بذاته. فقد قال زميله في المدرسة سيرجي كودروف لبي بي سي عام 2001: "لم يكن محور الاهتمام أبداً. كان يفضل التعامل مع الأحداث من مسافة بعيدة، وكان أشبه بطائر الكاردينال الرمادي، كما يقول المثل. وهو مختلف تماماً عن بوريس يلتسين. هل تتذكرون كيف صعد على دبابة وأشار إلى الجميع بأن يتبعوه؟ لا أحد يستطيع أن يتخيل بوتين يفعل ذلك. إنه انطوائي ـ رجل أفعال وليس أقوال".

كان لديه رغبة رومانسية في أن يصبح عميلاً في جهاز الاستخبارات السوفيتي لخدمة بلاده بشكل سري – ربما كان هذا هو العمل المثالي لشخص يحب تجنب الأضواء. وبحسب اعترافه الخاص، كان مصدر إلهامه هو فيلم التجسس السوفيتي عام 1968 "الدرع والسيف". كان الفيلم يدور حول عميل مزدوج روسي في ألمانيا خلال الحرب العالمية، يسرق الوثائق لتخريب العمليات النازية بينما يتنكر في هيئة سائق.

لم يتراجع بوتين أبداً عن طموحه في أن يصبح ضابطاً للاستخبارات منذ طفولته، واستمر في متابعة هذا الهدف طوال فترة دراسته الجامعية وتدريبه في جهاز الاستخبارات السوفيتي.

عندما كان في السادسة عشرة من عمره، دخل مقر جهاز الاستخبارات المحلي وطلب وظيفة. أخبروه بأن يدرس القانون ثم ينتظر. بعد ست سنوات، تم تجنيده من قبل الوكالة.

عاش بوتين، أكثر من 16 عاماً، حياة مزدوجة كعميل للاستخبارات. وعندما سقط جدار برلين، كان يخدم في ألمانيا الشرقية. عاد إلى روسيا في وقت كانت فيه جميع الحقائق القديمة تنهار.

في عام 1991، أصبح بوتين نائباً لعمدة لينينغراد الجديد، أناتولي سوبيتشاك. وعندما تم التصويت على إقالة سوبيتشاك، قام الكرملين بتوظيف بوتين. ومع اقتراب إدارة يلتسين من نهايتها، صعد بوتين بهدوء وحذر حتى تم تعيينه رئيساً للوزراء في عام 1999. وفجأة، أصبح الرجل القادم من العدم في كل مكان وفي آن واحد.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
Getty Images

بالنسبة لصديقة بوتين القديمة ماريا أوسورينا في عام 2003، كانت قيادته بمثابة "نسمة هواء منعشة" جديدة، وتقول: "وُلدت عام 1950، ومنذ ذلك الوقت لم يكن لدينا قائد يمكن النظر إليه بسرور. لم يعجبني أي منهم. بوتين هو أول شخص يحكم روسيا منذ الثورة وأعجبني حقاً. إنه أول شخص طبيعي، الأول الذي لا نشعر بالخجل منه."

لقد بقي بوتين في السلطة لمدة ربع قرن، وهي أطول فترة حكم لأي زعيم في الكرملين منذ الديكتاتور السوفيتي جوزيف ستالين. الآن، وبعد أن بلغ من العمر 72 عاماً وهو في ولايته الرئاسية الخامسة، كتب بول كيربي من "بي بي سي" في وقت سابق من هذا العام: "اختفت كل مظاهر المعارضة لحكمه ولم يعد هناك ما يمنعه من البقاء في السلطة، إذا أراد، حتى عام 2036".