نعرف ما هي المشكلة بين تيري رود لارسن (رمز القرار 1559) وبين شرائح معينة من اللبنانيين. لا نعلم ما مشكلته مع "قرنة شهوان" و"القوات اللبنانية". ففي معرض استعراضه للإنجازات الديموقراطية التي يكاد ينسبها، في تقريره الاخير، إلى القرار 1559 أشار إلى ان الائتلاف بين lt;lt;تيار المستقبلgt;gt; وlt;lt;الحزب الاشتراكيgt;gt; حاز على 72 مقعداً في المجلس النيابي. لقد تناسى المكوّن الثالث للاكثرية الجديدة علما انه حيوي جدا لتأمين نصاب سياسي ما ولو انه لم يحقق اختراقاً نيابياً بيّنا. واللافت اننا قد نجد، ضمن هذا المكوّن، اكثر الأصوات تأييداً للقرار 1559 ومع ذلك.. سقط سهوا. إن لارسن مدين باعتذار وربما بتوضيح. كان يفترض فيه ان يكون اكثر دقة ومعرفة. وإذا كان الاعتذار واجباً عن هذا التفصيل فإن الاعتذار الفعلي هو ذلك الذي يجب ان يرفعه لارسن إلى ديتليف ميليس.
ثمة ما يوحي بأن الفريق الدولي الذي يدير العلاقة مع لبنان (وسوريا) ارتكب خطأ تكتيكيا. فلقد كان مقدرا لتقرير لارسن ان يسبق الكشف عن تقرير ميليس. ولكن هناك من ارتأى تأجيله (خوفا من الازدحام!) وأقدم على تغيير الاولويات. لقد بقي الازدحام على حاله ولكن الترتيب ليس هو الافضل لصالح الفريق المعني.
حسابات تقديم ميليس على لارسن افترضت المنطق التالي:
ثمة إجماع لبناني على القرار 1595. الكل يريد الحقيقة. التشكيك بالتحقيق الدولي ممنوع حتى لو اتخذ شكل الدعوة إلى إبقاء العيون مفتوحة. لذا ما ان يصدر التقرير حتى يحدث وقعا ويكبل أيدي الجميع. تشن حملة على سوريا المضبوطة بالجرم المشهود ما يضطر قوى سياسية معينة إلى الصمت وكمّ الأفواه.
يصدر تقرير لارسن في هذه الاجواء. يهبط على أرض مهّدها له ما سبق. ويفترض بذلك ان يقود إلى جعل مؤيدي 1559 اكثر قدرة على الجهر برأيهم، كما إلى جعل المعترضين على البنود المتبقية منه ينتقلون إلى موقف دفاعي تماما. وليس مستبعدا ان يكون التضخيم الذي تعرّض إليه lt;lt;السلاح الفلسطينيgt;gt; جزءاً من هذا السيناريو علما أن هناك بين الفلسطينيين من لعب اللعبة وتورط في استعراضية تلحق ضرراً.
1595 هو المدفعية الثقيلة وقوة الاقتحام. انه تحقيق دولي في جريمة مروّعة تلقى إجماعا على إدانتها والمطالبة بكشف ملابساتها. أي أنه يلبي، لدى اللبنانيين، تطلبا مشروعا ولكنه، عند غيرهم، الاميركيين مثلا، يخدم وظائف اخرى منها ضرب طوق من الحصانة حول 1559: الجهة المتهمة واحدة.
غير أن ما حصل خالف المتوقع في بعض جوانبه.
لقد جاء تقرير ميليس عالي النبرة وشديد الوطأة السياسية من دون ان يكون مشفوعا بالقدرة الإقناعية الموازية. بكلام آخر إنه تقرير قوي ومدعم من غير ان يرقى ذلك إلى المستوى الحاسم بالمعنى القضائي. ولقد اعترف ان تمديد التحقيق مطلوب، وأن ثمة قضايا عالقة، وأن قرينة البراءة قائمة.
اتخذت الحكومة اللبنانية موقفا تأييديا منه عبّر عن نفسه في مجلس الامن، والنتيجة الموضوعية لهذا الموقف التأييدي ان لبنان الرسمي وجد نفسه، ولاول مرة منذ فترة طويلة، في صف الدول الغربية (المتضامنة معه او المتظاهرة بذلك) وفي مواجهة الحكومة السورية. وما يجدر قوله، في هذا المجال، ان lt;lt;الإجماعgt;gt; الحكومي لم يخفِ التباينات تماما فعبرت عن نفسها لاحقا بإقدام أطراف (حزب الله، أمل،...) على تقويم آخر للتقرير وعلى التعبير عن رفض أي حماسة في الاستناد إليه لتصفية حسابات مع النظام السوري لا دخل للبنان بها.
وفي غمرة النقاش، ولو الخجول، الخاص بالتقرير تسرّب مشروع القرار الاميركي الفرنسي البريطاني المقدم إلى مجلس الأمن من اجل استكمال التحقيق. وتبين في هذا المشروع ان تجاوزا حصل للقرار 1595 في اتجاه ربطه بالقرار 1559. جاء ذلك في الفقرة التي تقول إن lt;lt;مجلس الأمن يقرر ايضا انه على سوريا ان تتعهد نهائيا بوقف دعمها لكل اشكال الاعمال الارهابية وكل المساعدة للجماعات الارهابية وإظهار هذا التعهد بتحركات جديةgt;gt;. تطل هذه الفقرة مباشرة على تفسير غربي للقرار 1559 لا بل تعانق المطالب الاميركية من دمشق في خصوص العراق وفلسطين.
شكلت الفقرة استفزازاً لقوى لبنانية تميز بين السعي إلى معرفة lt;lt;الحقيقةgt;gt; وبين استهدافات أميركية وبريطانية حيال دمشق. وإذا كانت قوى لبنانية اخرى دعت إلى حصر العقوبات المفترضة بشخصيات سورية لا تعميمها لتطال الشعب السوري فقد فاتها أن العقوبات انما تستهدف ما هو منسوب إلى السياسة السورية من سلوكيات إقليمية.
التمايز بين فرنسا والولايات المتحدة في ما يخص أي قرار جديد ينهض على قاعدة تقرير ميليس هو تمايز لفظي. ان التباين هو، في الحقيقة، بين محور غربي ودول أخرى دائمة العضوية في مجلس الامن. هذه دول ترفض الاستعجال في فرض العقوبات واللجوء إلى الفصل السابع وهي إذ تطالب سوريا بالتعاون فإنها لا تضع له الشروط الصعبة الواردة في مشروع القرار. يعني ما تقدم ان روسيا، إذا بقيت على موقفها، ستلعب في مجلس الامن الدور الذي لعبته فرنسا عشية الحرب العراقية.
يفيد ما تقدم في الاستنتاج بأن هذه المعطيات أضعفت الوظيفة المقدرة لتقرير ميليس في صلته بتقرير لارسن. لقد ضاع بعض الفعل التراكمي المقصود بحيث أحيط لارسن بمناخ ليس مؤاتيا تماما. وفي الوقت الذي لم يؤد تقرير ميليس غرضه في خدمة تقرير لارسن فإنه من المقدر لتقرير لارسن أن يترك ارتدادات سلبية على تقرير سلفه. من هنا واجب الاعتذار. أو، لنقل، تبادل الاعتذار.
تقرير لارسن خطير حتى لو ان صياغته حاولت ان تكون باردة. تؤخذ عليه امور كثيرة منها انه يمثل تجاوزا على السيادة اللبنانية باسم حمايتها. لا دخل للمبعوث الدولي في مطالبة لبنان بتحديد موقف يقترحه له من نتائج اتفاق اوسلو. ربما كان الموقف الرسمي اللبناني خاطئا ولكن لا دخل للارسن بالامر خاصة حيال بلد تداخل تاريخه الحديث بالتاريخ الفلسطيني ولا زالت تربطه بالصراع مع إسرائيل عرى وثيقة. ولا دخل للارسن بقضية سيادية من نوع ترسيم الحدود مع سوريا ومتى يحصل ذلك وكيف. ولا دخل له بالقفز فوق ما هو متعارف ومتوافق عليه في لبنان بخصوص السلاح الفلسطيني. ولا دخل له أن يمون إلى هذا الحد على رئيس الحكومة فؤاد السنيورة ناسبا إليه وعودا هي كناية عن قراءة أُحادية لبعض التصريحات. صحيح ان لارسن يتبنى شعار lt;lt;الحوارgt;gt; مدخلا لعلاج سلاح lt;lt;حزب اللهgt;gt; ولكنه لا يخفي انه يرى لهذا الحوار نتيجة واحدة حتمية وهو يبادر، سلفا، الى رفع أي مشروعية عن المقاومة. والأنكى من ذلك ان المندوب الدولي يقترح على لبنان الدخول في ازمة حكم مفتوحة على التحول الى ازمة وطنية عندما يخيّر وزراء lt;lt;حزب اللهgt;gt; ومؤيديهم بين البقاء في الحكومة أو رمي السلاح!
باختصار، تقرير لارسن يجدد انقساماً لبنانياً كان موجوداً قبل جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ولا يخفي أنه يحاول الاستفادة من اجواء ما بعد الاغتيال لتعديل موازين القوى الداخلية. إلا انه يرتكب هنا الخطأ التكتيكي المشار إليه آنفاً. فالتقرير، في صيغته المنشورة، يسمح لقوى سياسية شبه مقموعة ان تعبر عن نفسها بحرية. يجيز لها أن تبني خطتها على التمييز المطلوب بين المطالبة بالحقيقة وبين الاستهدافات الأميركية العامة وهي، في الحقيقة، أميركية إسرائيلية تمثّل فيها فرنسا lt;lt;الضيف الثقيلgt;gt;.
للحكومة أن تقول في تقرير لارسن أنان ما تريد قوله. ولمدّعي الحكمة أن يروّجوا كما يشاؤون للتصدع الداخلي المسمى، زوراً، lt;lt;احترام الشرعية الدوليةgt;gt;. ولكن لا يستطيع أحد إلزام قوى سياسية، تحت طائلة المس بالديموقراطية، بأن تنصاع لهذه الوجهة.
إن المعركة لعدم تطبيق القرار 1559، أو، بالأحرى، لتفريغ ما تبقى من بنوده من أي مضمون، هي المعركة الوطنية الأم في لبنان. انها معركة صعبة وتزداد صعوبة. ولكن يجب ان يدرك الجميع أنها صعبة على الجميع.
لقد سبق القرار 1559 القرار 1595. ولكن الشرط اللبناني والإقليمي والدولي الحالي يجعل من تقرير لارسن محاولة لlt;lt;تسييسgt;gt; تقرير ميليس وذلك في انتظار قرار جديد لمجلس الأمن يتضح فيه، تماماً، منسوب lt;lt;التسييسgt;gt;.
- آخر تحديث :
التعليقات