الثلاثاء:20. 12. 2005

شيء ما
د. حسن مدن


ذات مرة أخذ الفنان جورج البهجوري ركناً من مكانٍ بعيد في صباح ذات جمعة في مقهى الأوبرا، ومن ذلك الركن راح يتأمل الأديب الكبير نجيب محفوظ الذي يتخذ، وحوله حرافيشه، ركناً آخر. شعر البهجوري كأن داخل عينيه عدسة زووم ترى كل شخصيات روايات محفوظ من خلال وجهه: من صانع العاهات إلى الحرافيش والجبلاوي والكلاب من دون لص. بل إنه عثر على خيط رسم وجهه من خلال الوجوه العديدة التي رسمها في ميرامار.

في المرة ذاتها، أو في مرة أخرى، تقدم البهجوري إلى مقاعد شاغرة حول نجيب محفوظ في المقهى، وأصبح وجهاً لوجه أمامه، فسأله محفوظ عن أخباره، فقال البهجوري، وكان ذلك في ستينات القرن العشرين: ldquo;أنا مسافر باريس أرسم هناك من أجل العالميةrdquo;، فرد محفوظ باسماً: ldquo;خليك محلي هنا وكلما زادت المحلية عندك أصبحت عالمياً..!rdquo;.

لم يأخذ البهجوري بالنصيحة وسافر إلى باريس التي مكث فيها طويلاً. لم يقل جورج في حديثه إلى أي درجة بلغ من العالمية، ولكننا جميعاً نعرف أن نجيب محفوظ لم يسافر. إنه يكره السفر ويحب المكوث مكانه، لكن محليته أخذته إلى جائزة نوبل. لقد أصبح عالمياً لأنه ذهب في عمق المحلية، حتى النساء الأوروبيات اللواتي قابلهن البهجوري في الغرب طامعاً في لفت أنظارهن إلى فنه، كن يعرفن محفوظ وتحتضن الواحدة منهن إحدى رواياته المترجمة حتى الصباح لأنهن يجدن فيها روح الشرق، روح مصر.

في الحوار المطول الذي أجراه عبده وازن مع الشاعر الكبير محمود درويش، سأل الأول الثاني عن رأيه في تداول اسمه كل عام لنيل نوبل، فقال جواباً مهماً أرى من اللائق أن يتمعن فيه بعض من ما انفكوا يسوقون أنفسهم بكل السبل لنيل الجائزة.

قال درويش انه لم يفكر في هذه الجائزة ولا يحلم بها. قال ايضا: ان ذلك يمكن أن يتحول الى وسواس، لذا فإنه لا يتمنى أن يدخل في هذه البورصة، كل سنة ترتفع أسهم وتسقط أخرى. أضاف درويش ايضا: ان هناك مشكلة في نظرة العرب الى صورتهم، فالأدب العربي لا يحتل مكانته في العالم كما يظن الأدباء العرب، وجائزة نوبل جائزة عالمية وليست عربية، وقد فاز بها العرب في شخص نجيب محفوظ بعد 87 سنة من تأسيسها، وحازها باستحقاق عال، أما بعض الكتّاب العرب فإذا ترجم لهم كتاب واحد يضعون أنفسهم رأساً في قائمة المرشحين لهذه الجائزة، ونصيحة درويش للذين يفكرون في ldquo;نوبلrdquo; ان ينسوها لعلها تتذكرهم!

وبدت لي مقاربة محمود درويش للأمر وثيقة الصلة تماما بما قاله نجيب محفوظ لجورج البهجوري: ldquo;خليك محلي أكثر، فكلما زادت المحلية أصبحت عالمياًrdquo;. وهي النصيحة التي كرّس محفوظ أدبه وحياته في سبيلها. لم يكن يفكر في العالمية ولم يسع الى نوبل. لقد انصرف بكل طاقته الابداعية والذهنية الى تجسيد الروح المصرية والمزاج النفسي للمواطن العادي وإلى تناول تلك القضايا التي تتصل بماضي وحاضر ومستقبل بلاده، ومن حيث يدري أو لا يدري كان، وهو يفعل ذلك، يمسك بالهم الإنساني العام وبتمزقات البشر وطموحاتهم وعواطفهم، هذه ldquo;المحليةrdquo; الصادقة، غير المتكلفة أخذته الى الأفق الانساني العام، الى العالم، فأصبح كاتباً عالمياً من دون أن يخطط لذلك. او يخطط له ذلك أحد سواه بالنيابة. ولم يسع ل ldquo;نوبلrdquo; ولكنها أتته، أو تذكرته، بتعبير محمود درويش.


E.mail:[email protected]