يذكّر التصويت الإيراني لصالح محمود أحمدي نجاد بالتصويت الفرنسي ضد الدستور الأوروبي. نضع جانباً ما قيل عن ضغوط وتدخلات حصلت لدعم المرشح المحافظ، فهذه، على أهميتها، ليست المسؤولة الأولى عن النتيجة.
عناصر الشبه عديدة.
ففي فرنسا، كما إيران، بدا، لوهلة، أن النتيجة محسومة. فالفرنسيون لن يستطيعوا التجرؤ على إسقاط الدستور وهم من الشعوب المؤسسة للاتحاد الأوروبي. والإيرانيون عاقلون كفاية بحيث إنهم قد يوزعون أصواتهم في الدورة الأولى بين هاشمي رفسنجاني ومصطفى معين ومهدي كروبي وقاليباف (لم يتذكّر أحد وجود مرشح اسمه نجاد) ولكنهم، في الدورة الثانية، سيقترعون بكثافة لابن المؤسسة صاحب الخبرة الأكبر في إدارة شؤون البلاد.

وفي فرنسا، كما في إيران، كان الإعلام، الخارجي منه تحديداً، ينصّب نفسه وصياً على رغبات البشر ويسبقهم إلى حيث يعتقد أنهم سيلاقونه حتماً. بدا دعاة الlt;lt;نعمgt;gt; الفرنسيون بمثابة فرنسا الحديثة المعاصرة المحببة، وخصومهم بمثابة حفنة من المتعصبين شبه العنصريين المصرّين على البقاء خارج الزمن. وكذلك كان أنصار رفسنجاني الأقرب إلى ما تراه العيون lt;lt;الغربيةgt;gt; في إيران. لقد نشرت صحف العالم كله مئات الصور لسيدات وفتيات إيرانيات يتعمّدن بعض الحسور ويخضن الحملة الانتخابية دعماً للمرشح الإصلاحي أو، على الأقل، للمرشح الأقل تزمتاً من غيره. ولم ينتبه أحد، أصلاً، إلى أن الصورة الصادرة من إيران لن تكون جديرة بالنشر إن أظهرت نساء محجبات.
وفي فرنسا، كما إيران، كانت النخب، النخب الحديثة، شبه مجمعة على أن النتيجة ستكون لصالحها. ولقد أظهرت تبرماً استثنائياً بكل رأي مخالف وصوّرته بأنه يعبّر عن أهل كهف يعيشون في العصور الوسطى. وكان واضحاً أن هذه النخب، في الحالين، متشكلة من راغبين في الانفتاح على الخارج ومن الشاعرين بأن موقعهم العلمي والاجتماعي يسمح لهم بالقدرة التنافسية المطلوبة التي لا يمكن لأي انغلاق أن يوفر لها طاقة التعبير عن نفسها. ولقد كان طريفاً عند انحصار المنافسة الإيرانية في الدورة الثانية بين رفسنجاني ونجاد أن الإعلام الفرنسي استعاد المعركة الرئاسية الأخيرة عنده عند انحصار المنافسة بين lt;lt;اليمينيgt;gt; جاك شيراك وlt;lt;اليميني المتطرفgt;gt; جان ماري لوبن. يومذاك كان الشعار المفضل هو lt;lt;أن النصّاب أحسن من الفاشيgt;gt;. وهكذا لم يعد ثمة شك في أن الإيرانيين سيقلدون الفرنسيين خوفاً من lt;lt;الفاشية السوداءgt;gt;، أي الأصولية المغالية.

ولكن في فرنسا، كما في إيران، كان للأكثرية الشعبية رأي مخالف لما بدا بالنسبة إلى البعض البداهة في حد ذاتها.
وفي فرنسا، كما في إيران، جاء التصويت متماهياً، إلى حد بعيد، مع خطوط الانقسام الاجتماعي الطبقي. الأكثرية الساحقة من عمال فرنسا وفلاحيها وموظفيها وشبابها وفئاتها الدنيا والوسطى اقترعت بlt;lt;لاgt;gt; للدستور. وأكثرية مماثلة اقترعت في إيران لصالح أحمدي نجاد.
في فرنسا خرج قعر المجتمع ليقول رأيه بمجرد أن سُمح له بالتعبير عن نفسه. وفي إيران كذلك.
وفي فرنسا، كما في إيران، كان التصويت الاحتجاجي صارخاً ضد الجهة التي اعتقدت أنه لم يعد وارداً احتساب الفقر، والهامشية، والبطالة، والجوع، والحاجة إلى الأكل والشرب والمسكن والتعليم، من ضمن العناصر التي تحدد خيار الناخبين.
وحتى لو توجه التصويت إلى من يطلق الوعود وقد لا يفي بها، فالمهم أن المواطن وجد نفسه يدلي بصوته إلى مَن بدا له أقرب إلى مشاكله اليومية الفعلية وأكثر تركيزاً على ضرورة توفير الحلول لها.

لقد تمادى أنصار الlt;lt;نعمgt;gt; الفرنسيون في دعوة الفئات المستضعَفة إلى التضحية، وإلى التحمّل، وإلى ارتضاء المنافسات المشروعة وغير المشروعة، وإلى التسامح مع عقود من الحكم اليميني أو اليساري الذي لم يفعل سوى زيادة الفوارق الطبقية بين المواطنين جاعلا الغني أغنى والفقير أفقر. ولذلك لم يكن حظ شيراك أفضل من حظ زعيم الحزب الاشتراكي فرنسوا هولاند.
وفي إيران تمادى الإصلاحيون المتعثرون، وأشباه الإصلاحيين، والمحافظون المعتدلون، في تشويه كل ما يمثله أحمدي نجاد من تواضع، واهتمام بالفقراء، ورفض للابتذال الاستهلاكي، وتحريض ضد الفساد، وإصرار على وضع الدولة والثورة والدين في خدمة lt;lt;الشعب الصغيرgt;gt;... تمادوا في ذلك بعجرفة جعلتهم يدفعون الثمن غالياً.
وفي إيران، كما في فرنسا، حصل نوع من الإجماع النخبوي على وصف حملتي أحمدي نجاد والlt;lt;لاgt;gt; بالشعبوية. فالشعبوية هي التهمة الجاهزة هذه الأيام في وجه كل من يقول إنه من الضروري الاستماع إلى الشعب ومشاكله وعدم الاستعلاء عليه وعلى صياغته لمطالبه. والشعبوية هي الرد الوحيد الذي بات يملكه نخبويون يملكون الأفكار ولا يملكون الأصوات. وبدلا من أن يعمد هؤلاء إلى التمييز بين المشروع وغير المشروع في التطلب القاعدي، وإلى التمييز بين الأجوبة الصائبة والأجوبة الديماغوجية، نراهم يصرون على التحصن في أبراجهم وعلى رفض رؤية الواقع كما هو، والقائل بأن قطاعات شعبية واسعة تئن وجعاً من جراء سياسات معينة وتنتظر الفرصة لتكافئ وتؤدب. الانتخابات هي هذه الفرصة.

لقد اقتحم التصويت الطبقي الساحتين السياسيتين في فرنسا وإيران، ولو أنه فعل ذلك من دون إدراك كاف لنتائج فعله، ومن دون ادعاء القدرة على بناء منظومة حماية وطنية تقي البلد المعني سلبيات الانفتاح والآثار السيئة لعولمة يُراد لها أن تكون نيو ليبرالية حصراً.
ثمة فئات، في إيران وفي فرنسا، وقبل ذلك في ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة، أنهكها تخلي القوى السياسية المفترض بها تمثيلها عنها. ليس غريباً، والحال هذه، أن تتمسك بأي طوق نجاة يُرمى لها.
يوم التصويت الفرنسي وقبيل الحسم الإيراني، كان اللبنانيون، بدورهم، يقترعون. فماذا رأينا؟
وُضع قانون انتخابي لمراعاة طائفة ثم سقط مراعاة لطائفة أخرى. وصدرت دعوة تطالب بأن ينتخب المسيحيون مسيحيين والمسلمون مسلمين. توحّد السنة في بيروت، ومَن اختاروه حليفاً بين المسيحيين تراجع نفوذه. توحّد الشيعة في الجنوب. غلّب شيعة عاليه بعبدا الدروز على المسيحيين. تجاوز مسيحيو ميشال عون مسيحيي وليد جنبلاط في الأقلام الانتخابية المسيحية. انتصر lt;lt;التيار الوطني الحرgt;gt; في المتن الشمالي وكسروان جبيل لأنه خاطب العزة المسيحية المجروحة من الحلفاء المفترضين. وبما أن السنّة أكثرية في دائرتي الشمال فقد فازوا.
حصل ما حصل على إيقاع الوحدة الوطنية، والمصالحة، والتآخي، والمحبة، والتلاقي، والشراكة، والاعتدال... إلخ.
وبما أن الشيعة يريدون رئيساً للمجلس النيابي فإن لهم ما يريدون. أما مصير إميل لحود فيُسأل عنه المرجع الروحي الخاص به...
في غضون ذلك يستشهد جورج حاوي (وقبله سمير قصير) فتطل طائفة من لا طائفة لهم ولكنها تطل مهجوسة برغبة جامحة في توكيد الهوية ولو قادها ذلك إلى العزلة.

إن خطوط الانقسام الطبقي في إيران وفرنسا تتحوّل في لبنان إلى خطوط انقسام طائفي. ومن المشكوك فيه أن يكون هناك لبناني اقترع وفق تعريفه لمصلحته الاجتماعية. لقد ابتلعت الطوائفُ الطبقات في لحظة ممارسة المواطنين حقهم في الاختيار.
يصفع هذا الواقعُ مَن يريد للحياة العامة في لبنان أن تستوي وفق قواعد محددة. لكن الصفعة إذ تهين يجدر بها، أيضاً، أن تنبّه. فلا جدوى، هنا، من الإطلالة النخبوية التي تستغرب تعارض الوقائع العنيدة مع أفكارها الجاهزة.
يتوجب احترام التصويت. ويتوجب، أيضاً، سبر أغواره من دون تغليب الالتحاق به أو الانعزال عنه. ثمة دوافع عميقة قادت إلى هذه النتيجة. ولا مشروع سياسياً جديراً بهذا الاسم إذا لم يعرف كيف يميّز المشروع منها عن غير المشروع من أجل استنباط سياسة فاعلة وقادرة على التأثير.
ثمة إرهاصات لسياسة من هذا النوع، إلا أن الخوف هو أن يكون أصحابها شيّعوها في تلك الجنازة التي سار فيها lt;lt;شعب اليسارgt;gt; حزيناً ويتيماً.