الغد: الأربعاء: 20. 07 . 2005

مثلما حدث في أزمات سابقة، يطغى على الاداء الفلسطيني تجاه ازمة غزة اسلوب ردود الافعال الانفعالية، والبحث عن تسويات جزئية او حلول مؤقتة، تغطي الهروب من مواجهة التحديات الحقيقية وما تحمله من خيارات.

وقبل الخوض في معالم هذه التحديات، لابد من الاشارة الى الرفض الشعبي العارم والإدانة الكاملة للاقتتال الداخلي أيا كانت دوافعه؛ فهو خط أحمر لا يسمح بتجاوزه، مثلما انه جريمة في حق الشعب الفلسطيني ومستقبله، خاصة حين يراهن شارون على ان الفلسطينيين سيذبحون بعضهم بعضا حالما يعيد الانتشار من غزة.

لكن حدة اللحظة يجب ان لا تعمينا عن جوهر التحديات الاستراتيجية التي تواجهنا، والتي يمكن تلخيصها في الآتي:

التحدي الأول: كيف يمكن الحصول على الحقوق الوطنية الفلسطينية في ظل اختلال حاد وهائل في توازن القوى لصالح اسرائيل على الصعد العسكرية والاقتصادية والدعائية والاقليمية؟ وهل دور السلطة محصور في ادارة شؤون الناس وضبطهم حيثما تسمح اسرائيل بذلك، وبانفصال عن قوى وآليات وأهداف حركة التحرر الوطنية الفلسطينية؟

ليس من الممكن القبول بمنطق ان التضحية من اجل الوطن، والتظاهر ضد جدار الفصل العنصري، ومقاومة الاحتلال، والاعتقال في السجون، والدفاع عن الاسرى، والمعاناة على الحواجز، هي من واجب البعض، فيما ادارة المقدرات الاقتصادية وموازنة السلطة والاعلام والمفاوضات والتمثيل الدبلوماسي هي من صلاحيات بعض آخر، وبانفصال شبه تام. ولا يمكن ادارة كفاح ناجح ضد جدار الفصل العنصري والاحتلال وتهويد القدس في ظل انفصام صارخ في قوى ومقدرات الشعب الفلسطيني.

كما لا تجوز اعادة تشكيل هذا الانفصام بعد تجربة اوسلو البائسة. فقد كرس هذا الاتفاق انفصاما غير طبيعي ساد لسنوات، ثم ردمته او اضعفته الانتفاضة الثانية، لكنه عاد ليطل برأسه من جديد، ومحصلة كل ذلك كانت خسارة الشعب الفلسيطيني للكثير خلال فترة اوسلو -ليس أقلها بناء أكثر من مائة مستوطنة جديدة، وتكريس ضم وتهويد شامل للقدس، وتوسع غير مسبوق للاستيطان- وخسارة اضافية في فترة ما بعد اوسلو، بالغاء حتى مبدأ التفاوض بين طرفين متكافئين وتحويله الى املاءات شارونية، واستبدال المرجعية والشرعية والقرارات الدولية بقاعدة: "ما يوافق عليه أو يرفضه شارون"، ليصبح بإمكان شارون ان يستبدل حتى خارطة الطريق -على علاتها- بخطته الخاصة بتحويل غزة الى سجن، وبسباق محموم مع الزمن لفرض حل منفرد اسرائيلي في قضايا الحل النهائي كافة.

والسؤال الذي يفرض نفسه هو: هل يمكن ادارة السلطة وأجهزتها بمعزل عن اننا جميعا السلطة والشعب والحركة الوطنية تحت الاحتلال؟ وتكفي للاستدلال على ذلك قرارات شارون باستعادة كل ما ادعى انه قدمه من إعادة انتشار في طولكرم ووقف للاغتيالات والهجمات العسكرية خلال دقائق ودون انذار. وهل يجوز ان تنهمك بعض الفصائل في صراع دموي على السلطة في ظل احتلال اسرائيل لمعظم الوطن، وبعد أن أصبح الاحتكام إلى صناديق الاقتراع هو الاسلوب الحضاري الذي نفاخر به؟ الاستنتاج المنطقي هنا يتضمن ثلاث حقائق:

اولا: ان الحصول على الحقوق الوطنية لا يمكن ان يتم فقط بالحوار مع شارون ودون نضال من أجلها.

ثانيا: ان النضال الوطني واجب وحق للجميع، ومن المستحيل اتخاذ قرارات كفاحية بمعزل عن الحركة الدبلوماسية على الصعيد الدولي، او عن الأثر الذي تحدثه على الصعيد الدولي والمحلي.

ثالثا: ان كل المقدرات الفلسطينية، شعبية كانت أم رسمية، يجب ان تجند لصالح اهداف النضال الوطني الفلسطينية وما يخدم طموحاته، وذلك كله لا يمكن تحقيقه دون آلية مشتركة للعمل الموحد، ودون مصارحة صادقة مع الشعب حول ما يمكن استخدامه وما لا يمكن استخدامه من أشكال لنضال حسب ظروف ومقتضيات كل مرحلة، ودون ضوابط وطنية واضحة للقرارات والمواقف التفاوضية والسياسية.

وفي المحصلة، فلا يمكن لأي طرف اتخاذ قرارات دون ان يكون مساءلاً عن نتائجها أمام الشعب. وعلى سبيل المثال، فلا يمكن تحقيق نتائج فعالة للكفاح الشعبي الجماهيري ضد جدار الفصل العنصري دون تجنيد المواقف الرسمية لأخذ قرار محكمة لاهاي إلى محافل الأمم المتحدة والمطالبة بفرض عقوبات على اسرائيل بسبب اصرارها على خرق القرارات الدولية، ودون برنامج لدعم صمود الناس يعيد صياغة الموازنة الفلسطينية.

وبنفس المنطق، فلا يمكن لطرف واحد، مهما علا شأنه، ان يعطي لنفسه حرية أخذ القانون باليد، او الانفراد بخرق الاجماع الوطني دون تشاور او حوار مع الاطراف الاخرى، سواء كان موضوع الاجماع التهدئة العسكرية أو حقوق اللاجئين الفلسطينيين أو حدود الدولة الفلسطينية المنشودة.

ان معاناتنا اليوم مثل معاناتنا بالامس، ترتبط مباشرة بغياب استراتيجية وطنية عامة متفق عليها في ادارة الصراع من اجل الحرية والاستقلال وبناء دولة حقيقية عصرية وديمقراطية ذات سيادة حقيقية، وهي معاناة تتغذى بالشرذمة الجغرافية والسياسية والعشائرية والفصائلية، التي يحاول شارون تعميقها من خلال فصل غزة عن الضفة الغربية والقدس عن سائر الاراضي المحتلة.

التحدي الثاني: ويكمن في ايجاد آلية تحول دون انسياق اي طرف نحو التفرد في صنع القرار، سياسيا كان ام كفاحيا. واذا كانت التهدئة العسكرية قرارا استراتيجياً اتفقت عليه الفصائل في القاهرة، انطلاقا من ان ذلك في مصلحة الشعب الفلسطيني، ومع علمها المسبق بأن اسرائيل لن تلتزم لا بالهدنة ولا بوقف مماثل لهذه الاعمال، فلابد من ايجاد آلية معتمدة لاتخاذ القرارات في مواجهة الخروقات الاسرائيلية، او لردع وفضح ممارسات اسرائيل للاغتيالات واعمال القمع والتنكيل العسكرية.

ان وقف الاعمال العسكرية -وهو قرار صحيح، انطلق من مصلحة الشعب الفلسطيني وتقويم عناصر الصراع- لا يعني وقف كل أشكال الكفاح الشعبية الجماهيرية والسلمية، بل هو يتطلب تقويتها وتوسيعها. واذا كان الكفاح الشعبي ضد الجدار مشروعا، فان السلطة مطالبة بدعمه بشكل كامل، ماديا ومعنويا، ليس بمعنى المشاركة الرمزية، بل باخضاع قراراتها السياسية والاقتصادية لاعتبارات هذا الكفاح.

التحدي الثالث: ويدور حول فكرة "وحدانية السلطة"، في ظل الاقرار بأن الشرعية الفلسطينية تستمد من نتائج الانتخابات الديمقراطية والتمثيل الصادق والامين لصالح الشعب الفلسطيني. والسؤال هنا هو: كيف يمكن الحديث عن وحدانية السلطة مع استمرار:

أ) تأجيل وتسويف الانتخابات التشريعية، والتأجيل غير المنطقي للانتخابات البلدية، والسماح بالعبث بقواعد وأسس وآليات العملية الانتخايبة، واستمرار غياب قانون للاحزاب السياسية وتمويلها؟

ب) انعدام وجود آليات مشتركة لصنع القرارات السياسية، مع ضعف مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وتحول اللجنة التنفيذية الى هيئة هامشية في عملية صنع القرارات، وفي ظل العجز عن توسيع قدرتها التمثيلية ببقاء قوى فاعلة وأساسية خارج أطرها؟

ج) والاهم استمرار التسييس الفئوي للاجهزة الامنية، وعدم احداث الاصلاحات الجذرية المطلوبة في صفوفها؛ باخضاعها لسيادة القانون والغاء تسييسها، بحيث يشعر الجميع انها في خدمة كل الشعب الفلسطيني وقوانينه، دون تمييز فئوي او سياسي؟

د) استمرار الشكوى من سياسة الواسطة والمحسوبية في البعثات والتعيينات والترفيعات والكثير من القرارات، في مجتمع أصبح بالغ الحساسية تجاه المحسوبية الفئوية؟

لعل مواجهة هذه التحديات الثلاثة، وكذلك مواجهة التحدي الصارخ خلال وبعد اعادة الانتشار في قطاع غزة، بما في ذلك التحريض الاسرائيلي بأن الفلسطينيين عاجزون عن توفير ادارة عصرية لبقعة صغيرة مثل قطاع غزة فكيف بهم بادارة دولة بكاملها! هذه المواجهة تكمن في اتخاذ اجراءات فورية وجريئة تشمل:

- تكوين قيادة وطنية موحدة بصيغة مؤقتة لتشكل مرجعية وطنية مشتركة تشمل كل المناطق المحتلة دون استثناء، بما يحبط مخاطر الشرذمة التي قد تنجم عن تشكيلات سياسية في قطاع غزة مختلفة عن الضفة الغربية. وتكون هذه القيادة مسؤولة بشكل جماعي عن القرارات السياسية والكفاحية، بما في ذلك الموقف من التهدئة، وتنهي مرض التفرد باتخاذ القرارات دون الاستعداد لتحمل نتائجها، ولتعد فوراً للانتخابات التشريعية، وما لم يتم من الانتخابات البلدية والمحلية، مع تعهد الأطراف كافة باحترام نتائج هذه الانتخابات أيا كانت.

- تحديد موعد فوري ونهائي لاجراء الانتخابات التشريعية، على ان يمتنع المجلس التشريعي الحالي عن اقرار أية تشريعات استراتيجية اضافية بسبب فقدانه لاهليته.

- احداث تعديل في تركيبة لجنة الانتخابات المركزية بتمثيل القوى كافة التي تنوي المشاركة في الانتخابات فيها، او السماح لها بحضور اجتماعاتها التي يجب ان تكون علنية ومفتوحة.

- حل لجنة الانتخابات المحلية، وتحويل صلاحياتها كافة إلى لجنة الانتخابات المركزية بعد ان تم الغاء السجل المدني وانعدم مبرر تجزئة المسؤولية عن الانتخابات. وكذلك الاسراع باقرار مبدأ التمثيل النسبي في الانتخابات البلدية.

- اتخاذ الاجراءات الفورية لتكوين جهاز قضاء مستقل، وفصله عن السلطة التنفيذية ليصبح مرجعية حاسمة لحل الخلافات تحت مظلة القانون. ولابد من التذكير هنا بأننا لا نعاني من نقص في القضاة او المحامين النزيهين، او الآليات الفنية، بل من غياب الارادة السياسية لدى السلطة بتفعيل جهاز قضاء مستقل.

ولعلنا جميعا نجد الحكمة والاخلاص والوعي المطلوب للالتزام بأن المرجع الاخير في لحظات الازمات العاصفة هو مصلحة الشعب وارادته. وهذه المصلحة تكمن في الحفاظ على وحدتنا الوطنية، اما ارادته فلن تعبر عنها الا الانتخابات الديمقراطية الحرة.

الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية