الإثنين:16. 01. 2006
عبدالله بن بجاد العتيبي
في هذا الزمن العربي البائس، لا تكاد شمس الحياة تشرق على الإنسان العربي إلا كليلة الضياء مبعثرة النفع، ذلك أن الإنسان العربي يقع -للأسف الشديد- في أسفل سلم الأولويات للكثير من القيادات السياسية والفكرية والدينية والاجتماعية، أما القيادات الاقتصادية فبعد تطعيمها بالرأسمالية الشرسة أصبح الإنسان في معادلاتها رقما بائساmiddot;
الانعتاق العربي من أسر لحظة التخلف والخمول الراهنة يبدأ من إعادة ترتيب تلك الأولويات ليكون الإنسان على رأس القائمة، التنمية البشرية هي محور النهوض الحقيقي لأي أمة والتفريط في البشر تفريط في المستقبلmiddot;
لو استطاعت غالبية الدول العربية أن تضع خططا فعّالة للتنمية البشرية لما أصبحت مخرجات التعليم لقمة سائغة في فم مارد البطالة أو جنودا عميا في كتائب الموت القاعدية، ولما وجدنا الفساد السياسي والمالي يشابه الثقوب السوداء التي تتمتع بجاذبية رهيبة لكل ما حولها حتى تبتلعه في داخلها!middot;
عانى العرب طويلا من نير الاستبداد العثماني وكتب الكاتبون وصرخ المصلحون ولكن كلماتهم كانت تذهب أدراج الرياح لا تلقى أذنا تسمــــع ولا قلبـــــا يعقــــل وإن صادفت شذوذا في المتلقين يسمع ويعقل فإنه غالبا ما يكـــون عاجــــزا عن الفعل معدوم الإرادة في التنفيذ ورفع الظلم ومحاصرة الاستبدادmiddot;
لكن نهايات الحقبة الاستبدادية العثمانية التركية شهدت حراكا غير مسبوق في أنحاء متفرقة من رقعة العالم العربي، فقد كانت الحركة الوهابية في الجزيرة العربية تظهر بقوة وتضع لها قدما راسخة في المشهد السياسي والديني وبرغم محاولات الباب العالي في أسطنبول القضاء على تلك الحركة إلا أنها لا تكاد تختفي حتى تظهر من جديد وتثبت نفسها كرقم صعب في المعادلة الإقليمية والعالمية في هذه البقعة المتقدة من العالمmiddot;
وكانت هذه الحركة تقمع بواسطة حركة ناهضة أخرى في موقع عربي آخر، فكانت الحملات العسكرية تسيّر من مصر محمد علي باشا القائد المصري الفذّ الذي استطاع قراءة المشهد العالمي ببصيرة ثاقبة وحاول قدر استطاعته أن يرسم لمصر مستقبلا نهضويا زاهيا وسعى في ذلك المجال أشواطا لا يمكن إنكارها وكان على رأسها البعثات الدراسية التي يرسلها تباعا لدول العالم المتقدم أملا في قراءة مفردات النهوض واستيعاب التجربة ومن ثمّ نقل النهضة وتوطينها في مصر، وكانت نجاحاته تتوالى في المجالات العسكرية والصناعية والتعليمية وغيرها، ولم يصل محمد علي لتلك البصيرة إلا بعقل متفتح وأذن سمّاعة وحزم في التطبيق، ومن الغرائب أن رفاعة الطهطاوي كان يترجم له كتاب ''الأمير'' لميكيافيللي الذي يفلسف فيه ميكيافيللي نظريته في السياسة ويقدّم فيه النصائح السياسية التي تضمن بقاء الحكم واستقراره فما كان من محمد علي بعدما ترجم له ما يقارب ربع الكتاب إلا أن قال أنا أعرف أكثر من هذا الكلام بكثير وهذه الحيل السياسية قديمة ولدي مثلها وأكثر، ولكن ابحثوا لي عن جديد لا أعرفه لعلي أتعلم شيئا نافعا، بالتأكيد أنا لم أنقل القصة السابقة بحروفها ولكنني نقلتها بمعناها لأنها تمنحنا إطلالة على فكر رجل أراد أن يبني نهضة حقيقية، وتجربة محمد علي باشا حرية بمزيد من تسليط الضوء على أسباب فشلها وذلك حديث طويلmiddot;
الوهابيـــــــــة ودولـــــــــة محمـــــد علــــــي كانــــــت إرهاصــــات سياسية تعبّر نوعــــــا مـــــا عن ملل من التخلف والاستبداد التركي الضارب بجرانه علـــى العالــــم العربـــي، ولكـــــن بواكير النهضة العربية الحديثة بدأت مع عدد من الرموز السياسية والدينية والفكرية من أمثال جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده وخير الدين التونسي والكواكبي وآخرين، فكانت الإصدارات الفكرية تتوالى وتطرق مسامع الشعوب العربية وتستخدم أحدث الوسائل في الوصول إلى عقول الناس والتأثير فيهم، فأصدرت الكتب والمجلات وتوالت الإصدارات ضجيجا من ظلم الأتراك واستبدادهم وإذكاء لجمرة الشهود الحضاري في محاولات جــــادة ورزينة حاولـــــت أن تراكــــم النجاح وتخلق جيلا جديدا يعي أهمية الإنسان ووجـــــوب ترقيته ليكــــون مشعلا حضاريا يضـــــــيء لأمتــــه طريـــــــق النهوض والرقي والتقدّمmiddot;
وكـــــان الاستعمار وكــــــان الصراع الطبيعــــي معــــــه، وكان التخلف الديني وكــــــان الصراع الطبيعي معه، وكـــــان الاستبداد السياسي وكان الصراع الطبيعي معه، إن قـــــراءة تلك اللحظة التاريخية تعلّمنــــــا أن الإصــــــلاح ليس كلمـــــة تلقـــــى على قارعـــــة الطريــــق، ولكنـــــه بنــــــاء متكامـــــل يأخذ بعضه برقاب بعض، فـــلا يمكن أن تصلح الفساد السياسي وتترك رجال الدين يزيدون الناس تخلفا ورجعية، ولا يمكن أن تصلح المؤسسات الدينية والخطاب الديني وأنت تزيد في الفساد المالي والإداري، ولا يمكن لهذا الإصلاح أو ذاك أن ينجح ما لم يقدّر له رجال يؤمنون به من شتى التوجهات ويستطيعون تقديم البدائل الناجحة عن الفساد القائم ويكون في أيديهم شيء من ''الأمر'' يستطيعون بـــه تحويل الأفكار إلى خطــــط عمل والأحـــــلام إلــى مشاريـــــع تنفيذيــــــة، وذلـــــك ما لـــــم يحدث آنذاكmiddot;
بعد تلك اللحظة التاريخية التي أطلّ فيها الفكر العربي على ''النهضة'' كموضوع حاضر بقوة في المجال الثقافي والسياسي لم يتمّ السير في ذات السبيل وبناء التراكم حتى الوصول للغاية المنشودة، بل إن العكــس هــــو مـــــا جرى لأسباب متعددة، فبـــــدأ الانحدار السياسي والثقافي والديني، فبعد الاستعمار جاءت كثير من الأنظمة العربية بما هو أقسى على الإنسان وأفظع على البشرmiddot;
وبعد فترات صاخبة بالاشتباك المباشر مع المستعمر جاء الاستقرار العربي على ما هو أكثر سوءا وفشلا من الاستعمار نفسه وكانت تقود هذا الاستقرار العربي الرديء الثورات العسكرية التي قامت هنا وهناك وعلى رأسها ثورة الضباط الأحرار في مصر وقل مثل ذلك في الشام والعراق واليمن وغيرها من أرجاء الوطن العربي، هذا على المستوى السياسي أما على المستوى الديني والثقافي فبعد الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده جاء حسن البنّا وسيّد قطب، ويمكن قياس المستويات الأخرى الاجتماعية والاقتصادية على هذين المستويين السياسي والديني، لقد كانت لحظة انحدار أو لحظة حماس زائد غير مدروس ولا مبرر أودت بتجربة لو سجّل لها النجاح لكنّا اليوم في موقع آخر غير ذيل القائمةmiddot;
أعلــــم أن قـــــراءة من هذا النوع تثير في النفس الإحباط واليأس وليس أقتل للعمــــــل والنجاح منهما، ولكننا يجب أن نضع أيدينا على الجرح إن أردنا تطهيره ومعالجته، ويجب أن نتسلّح بالعلم والمعرفة وأن نطوّر ''الإنسان'' لدينا وأن نستثمر فيه، فالملايين التي تصرف على جامعات لا تخرّج إلا أجهزة حفظ و''سيديات'' تكرار لا تستطيع أن تبنــــــي حضارة ولا أثر لهـــــــا في الواقع إلا رفع معدّلات البطالة، لو صرفت تلك الملايين على تنمية حقيقية تراعي الاحتياجــــــات الفعلية وترسم الخطط المستقبلية لكانت لأوطاننـــــا وأمتنا مكانـــة أرقـى في سلم الشهود الحضاريmiddot;
التعليقات