عدسة جيولوجي انكليزي تطرق زجاج نوافذ عراقية
لندن ـ كرم نعمة
ذو ذاكرة حية وملفتة، يحفظ التواريخ واسماء الأماكن بشكل حي وملفظ للنظر، فهذا الثمانيني انكليزي بطباع عراقية استوحاها على مدار عام كامل تنقل فيه من أقصى جنوب العراق الى شماله، ومن حسن حظه أو من سوئه، كما يقول أنه غادر العراق قبل ثلاثة أو يومين من تاريخ 14 تموز (يوليو) 1958 !
من يتعرف على ايان هيغنبوتوم يكاد يجمعه بالرحالة الانجليزي الراحل ولفريد تيزر الذي قضى سبع سنوات في اهوار العراق وأرشيفه الفوتغرافي يضم 38 ألف صور لعرب الاهوارومشاحيفهم ومضايفهم ونسائهم وطبيعة حياتهم أبان عقدي الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.
نعم ، قال ايان كنت في نفس سنوات ولفريد تيزر في بلادك العراق ، بل كنت قريبا جدا منه ربما في صحراء الزبير أو في القرنة بينما كان هو في الاهوار ، ولسوء الحظ لم اتعرف عليه آنذاك ، لكنني تمتعت بقراءة كتبه ومشاهدة ارشيفه الصوري عن العراق، أيضا كنت في نفس سنوات وجود الروائية أجاثا كريستي في العراق ولم يتسن لي ايضا الالتقاء بها مع أنني كنت قد مررت بطرقات بلاد الرافدين من أقصى صحراء الكويت والبصرة حيث لاوجود أنذاك للحدود ، عشت لايام في فندق (شط العرب) في البصرة ومررت ببغداد ثم توجهت صوب الشمال مرورا بالموصل وحتى مصيف سرسنك.
مرض السفر عند الانكليزي
من يطالع أرشيف الراحلة ولفريد تيزر الذي توفي عام 2003 يكتشف حسه المنضبط في تصوير الاماكن والاشخاص وتثبيت معلومات دقيقة عن كل صور كما حدث مثلاً مع صورة كلثوم ، المراة التي كانت تعيش في الاهوار أنذاك فقد كتب تحتها (التقطت هذه الصورة عام 1958 في مركز الاهوار لكلثوم زوجة حسن بن مناتي اثناء تزيينها بالحلي المعدنية)
أو صورة الاطفال العراة التي التقطها عام 1954 وهم يمتطون ظهر الجواميس في اهوار ابو فلوس.
توقف ايان عن سرد ذكرياته التي تبدو لمن يتعرف عليه للوهلة الاولى أنه يتحدث عن ذكريات اسابيع قريبة ،وقال ارجوك كرم هل مازال فندق شط العرب قائماً؟
عندما يتذكر ملتقى دجلة بالفرات في كرمة علي كانه يصف المكان اليوم ، لم يكن بحوزته قاموساً آنذاك لكنه حفظ اسماء الاماكن والحيوانات بما سمعها من العراقيين آنذاك ، وعنما سالته بعد بضعه اشهر من دخوله منتصف العقد الثمانيني من عمره عن سر أحتفاظه بكل هذه التسميات والاماكن عن بلاد مر بها في مهمة عمل ، قال لا أعتقد أكثر من (المرض الانكليزي) في السفر واستكشاف حياة اناس بعيدين عنا ، وهذا يفسر لنا كيف عاش ولفريد تيزر في اهوار العراق سبع سنوات وهو أبن الدبلوماسي المترف ، ارتدى ملابسهم وتناول طعامهم أحبهم كأناس واستطاع ان يصورهم في أدق تفاصيل حياتهم.
أتذكر اسم (الواوي) المعادل لحيوان الـ (JACKAL) ثم (البزون) ...، هكذا قالها بعربية مخففة وسط دهشتي!!عن اسمين مرا عليه قبل اكثر من 45 سنة من دون أن يعيدهما عليه اي انسان اخر.
قال ايان عندما مررنا بمنطقة العزيزية قرب الكوت تسنى لي ألتقاط صورة لمدرسة في احدى القرى وتحديداً في شتاء عام 1958 ، وكم سأكون سعيدا عنما يتسنى لاي أحد من أولئك التلاميذ الصغار أن كان قد بقي على قيد الحياة في عراق لم يلفظ أنفاسه من حروب توالت عليه، أن يتعرف على صورته قبل 46 سنة مضت.
المرور سريعاً ببغداد
من بين ارشيف ايان هيغنبوتوم مجموعة من الصور لمواقع اثارية في صحراء الناصرية التقطها في الاسابيع الاولى من وصوله للعراق ، ولسوء الحظ لم يتسن له العودة للمواقع ذاتها فيما بعد للتعرف عليها أكثر او تسجيل بعض الملاحظات.
يقول عن ذلك: أنا لست منقباً اثاريا ولا حتى رحالة ، كنت مهندساً جيولوجياً مرتبطاً بعمل مع شركة في المسح الارضي قبل شق الطرقات بين مدن العراق، لكن لهفة المعرفة كانت تدفعني لتسجيل ملامح وطبائع كل مدينة نمر عليها، لقد قضيت سنوات اخرى مع البدو في صحراء الكويت وبعض البلدان في شمال أفريقيا.الامر الذي ساعدني على التعرف على تقاليد وحضارة الشرق والعرب تحديدا.
لايتذكر أيان اشياء كثيرة عن بغداد لانه مر بها سريعاً قبل التوجه الى شمال العراق ( سعدت بالبقاء في فندق سميرة اميس على ضفاف دجلة وتذوقت بتلذذ طعم بيرة ديانا العراقية (لم ينس أسم البيؤة العراقية ) ، لكن مابقي في ذاكرتي عن بغداد اقل بكثير عن صحراء الكويت والبصرة والناصرية والعزيزة والموصل وسرسنك وأربيل).
لايستطيع ايان ان ينتقي من ذاكرته ذكرى متميزة عن عراق الخمسينيات حيث عاش هناك لانه يؤرشف مايعادل عام قضاه في فترات متقطعة ،ويقول عن ذلك أن المرء عندما يستعيد مامضى من عمره يكتشف سر بقاءه سعيداً ، وأنا كذلك ، فاذا استثنيت عن قصد أنني ذهبت للعراق بمهمة عمل جيولوجي وهذا بلا شك نجاح، فانني لم أدع شيئاً يمر من امام عيني في مدن بلاد الرافدين التي عشت بها او زرتها من دون ان أوثقه في كراس حكاياتي أو في ذاكرتي.
التعليقات