غسان الإمام
مع بدايات حريق الصيف اللبناني ـ الاسرائيلي، كتبت هنا موضوعا عن سقوط نظرية الردع والأمن الاسرائيلية. لا الجدران. لا الأسوار.. لا سلاح الطيران. لا تفوق التدريب النوعي. لا القوة النارية الهائلة.. كلها لم تعد قادرة على تأمين الحماية للداخل الاسرائيلي.
الآن، أقول إن اسرائيل فقدت ايضا القدرة على شن حرب وقائية خاطفة وهي في مأمن العقوبة العربية. في لبنان، في هذا البلد العربي الصغير الذي لا يملك جيشا للدفاع، تهاوى وانطوى حلم laquo;اسرائيل الكبرىraquo;. قتل شارون 27 ألف لبناني وفلسطيني في حرب 1982. احتل الأرض. اجتاح العاصمة. طارد الرئيس اللبناني الراحل الياس سركيس من غرفة الى غرفة في قصر بعبدا، لكن لم يستطع أن يحتل السكان.
اكتشف حافظ الأسد مع الدروز والفلسطينيين ما أسميه: laquo;الحرب المدنية الدفاعيةraquo; ثم اكتشفها الشيعة مرة أخرى. laquo;التحمraquo; السكان المدنيون المسالمون بالمقاتلين. وفّروا الحماية لهم. انقهر الجيش laquo;الذي لا يقهرraquo;. تراجع على مراحل. انسحب نهائيا في عام 2000.
ببساطة، اكتشف العرب صاروخ الـ laquo;كاتيوشاraquo; البدائي. تقاتلوا به، ثم وجدوا انه ينفع في مقاتلة عدوهم أيضا. كان الفلسطينيون أول من قذف المستعمرات الاسرائيلية به من لبنان. كان الشيعة اللبنانيون أذكى. توسعوا به. وصلوا الى العمق الاسرائيلي. أضافوا عليه laquo;المخبأ / الحصنraquo; الآمن تحت الأرض. يقذفون الصواريخ ثم يختبئون في منجاة من جنون رد الفعل الاسرائيلي. قنابل الاعماق الانشطارية التي أعارها بوش لحالوتس، ومررها بلير بفيزا بريطانية، لم تعثر سوى على السكان المدنيين حماة المقاتلين. هل تصلح استراتيجية laquo;الحرب الدفاعية المدنيةraquo; لحرب نظامية محتملة بين العرب واسرائيل، أو مقبلة بين سورية واسرائيل؟
أجد من الأفضل أن أستعير مَنْ هو أقدر مني على التعريف بماهية هذه الحرب. في نهاية العام الماضي، أصدر الجنرال البريطاني روبرت سميث كتابا عسكريا ضخما بعنوان: laquo;فائدة القوة: فن الحرب في العالم الحديثraquo;. يقول الجنرال المحنَّك إن الحرب الحديثة ليست لها ميادين قتال. انها حرب مستمرة وطويلة ضد laquo;عدو مجهولraquo; مختبئ في صميم النسيج المدني الاجتماعي. هذا laquo;الالتحامraquo; بين المقاتلين والمدنيين جعل laquo;العمليات العسكرية صعبة للغاية أو مستحيلةraquo;، نظرا للخسائر الهائلة التي يتكبدها المدنيون laquo;اسرائيل قصفت المدنيين اللبنانيين بلا مبالاة ووحشيةraquo;.
يعتقد الجنرال سميث بأن الحروب التقليدية انتهت بانطلاق شعاع تفجير هيروشيما وناغازاكي. لعله يقصد أن الأميركيين عاقبوا المدنيين اليابانيين، لتشكيلهم جبهة لوجستية خلفية laquo;ملتحمةraquo; بالجيوش اليابانية في جبهات القتال. لكن الاميركيين والسوفييت لم يدركوا هذا التغيير خلال الحرب الباردة! كانت الحروب الكورية والفيتنامية والأفغانية حروبا مدنية ضد السكان الذين يسبح المقاتلون في بحر نسيجهم المتماسك. لذلك تعطل نصر القوات الغازية أو تأخر كثيرا.
من سوء حظ صدام وأصدقائه الصرب أن الجنرال الداهية أصدر كتابه متأخرا، ولعله تعمد التأخير. في حرب البوسنة، كان الجنرال المجرب قائدا للقوات الدولية في البلقان. من حسن حظه ان الصرب لم يعرفوا الاختباء تحت الأرض. ارتكبوا مجازرهم، فعرضوا أنفسهم لقصف الطيران الدولي.
إذا كان صدام لم يجد مدنيا كويتيا واحدا laquo;تلتحمraquo; قواته به وتختبئ عنده، فقد ساهم الجنرال سميث الذي كان قائدا للفيلق البريطاني، بإخراج قوات صدام من الكويت بسهولة. أقول إن صدام وعى فوائد laquo;الحرب المدنية الدفاعيةraquo; متأخرا. عندما يكتب التاريخ الحقيقي لغزو العراق، سوف يحتل laquo;فدائيو صدامraquo; مكانهم في عرقلة زحف القوات الاميركية نحو بغداد. قاتلوا ببسالة وبأفضل مما قاتل الجيش العراقي والحرس الجمهوري. لكنهم نسوا تفجير الجسور. ولم يبنوا حصونا تحت الأرض لقطع الخطوط اللوجستية للقوات الغازية.
واضح من الكتاب ان الجنرال سميث مهتم بالجيوش الغربية، يبحث لها عن استراتيجية في مواجهة حرب جديدة عليها يبدو انها تخسرها في العراق وافغانستان. هو يوبخها على تخفيض عديد جنودها، وإهمال تدريبهم مع ذلك ينصحها بالاستمرار في اعتمادها على التقنية السلاحية المتفوقة، مع تركيز على العمل المخابراتي البشري في صفوف laquo;المجتمع المعاديraquo;. حتى الانجليز اكتشفوا متأخرين نصيحة جنرالهم! خسر بلير حياته السياسية عندما ساير بوش في العراق ولبنان. الانجليز يريدون أن يهربوا الآن من العراق! يتركون جنوبه لايران! يقولون انهم يريدون ان يحاربوا في أفغانستان! مساكين الانجليز. هم كالمستجير من الرمضاء بالنار!
أود هنا أن أسجل بعض الملاحظات على الكتاب. أقول إن هناك فرقا دقيقا بين حروب الثورات التقليدية والحروب المدنية الجديدة. خسر تشي غيفارا حربه. قاتل النظام في الأدغال بعيدا عن الالتحام بالشعب المدني. يخسر الارهابيون laquo;القاعديونraquo; وlaquo;الجهاديونraquo; حربهم مع النظام العربي. نعم، تمكنوا من السباحة في حضن بعض المجتمعات المتعاطفة، غير أن سفكهم لدماء المجتمع الذي يختبئون عنده، ثم عدم قدرتهم على الدخول في مواجهة مباشرة فوق الأرض أو تحتها، سمحا للنظام بملاحقتهم وتصفيتهم بسهولة.
من البديهي أن لا ينصح الجنرال سميث laquo;حزب اللهraquo;. لكن الحزب خسر حربه laquo;المدنيةraquo; لأن إيران وسورية زودتاه بالكاتيوشا ونسيتا تزويده بصواريخ أرض ـ جو تحمي المدنيين المساكين laquo;الملتحمينraquo; معه، نعم، قاتل مقاتلوه القلائل في قراهم ببسالة وكفاءة. فهم في النهاية شباب عرب يعبرون عن حيوية الحياة في أمة عربية تقاوم ولا تريد أن تموت. لم يكن قادتهم معهم. لقد اختبأوا. ربما لجأوا الى laquo;الجيران الملتحمينraquo; معهم عبر الحدود، ثم خرجوا بعد الحرب ليعلنوا النصر laquo;الإلهيraquo; المزعوم.
جنرال آخر غير الجنرال سميث، يسخر من اسرائيل وأميركا. الجنرال عون يقول لهما ان laquo;حزب الله لا يمكن القضاء عليهraquo;. اكتشف الجنرال السياسي laquo;المتفاهمraquo; مع الحزب أهمية laquo;التحامraquo; المقاتل بالمجتمع المدني. يتذكر قتال جيشه الخاسر مع ميليشيا جعجع laquo;الملتحمةraquo; بالبطريرك laquo;نصر اللهraquo; ومجتمعه المسيحي.
إذا كان هناك laquo;البطرك نصر اللهraquo; عند الموارنة، وlaquo;السيد نصر اللهraquo; عند الشيعة، فقد حلت laquo;خيبة اللهraquo; بغزة! انسحبت اسرائيل من القطاع، لأنها عجزت عن التفريق بين المقاتلين والمدنيين. laquo;خيبة اللهraquo; نزلت بالفلسطينيين، لأنهم لم يعرفوا كيف ينقلون laquo;حربهم المدنيةraquo; من غزة الى الضفة.
بعد كل ذلك، هل اعتبر السوريون بما جرى في لبنان؟
لم أخش على سورية حتى عندما أصبح الأميركيون أطباء laquo;ليلى المريضة في العراقraquo;. أخشى على سورية اليوم. فهي بين خيارين: إما أن تفك laquo;التحامهاraquo; بإيران، وإما أن تواجه خطر حرب مع اسرائيل. الاغراء لها كبير، ربما بالانسحاب من الجولان، لفك التحامها أيضا بـ laquo;حزب ايرانraquo; في لبنان.
السوريون يعرفون كيف يديرون السياسة، ولا يحسنون إدارة الحروب. هذه المرة، هم بحاجة إلى استراتيجية laquo;الحرب المدنية الدفاعيةraquo;، حرب الحصون تحت الأرض لإعاقة القوات المعادية، حرب النظم الدفاعية ضد الطيران، حرب الصواريخ الموجهة بدقة، ليس صاروخ حزب الله الأعمى. فقد قتل من الفلسطينيين المدنيين أكثر مما قتل من الاسرائيليين. سكت الفلسطينيون المساكين، لأن laquo;ضرب الحبيب زي أكل الزبيبraquo;. لكن السوريين المدنيين الصامتين الآن، لن يسكتوا إذا خسرت قيادتهم وجيشهم حربا مرة أخرى.
التعليقات