الجمعة: 2006.10.20


يوسـف إبراهيـم

إذا ما حكمنا بناء على مضمون المناقشات الدائرة فسوف ندرك أن كلا من quot;الجمهوريينquot; وquot;الديمقراطيينquot; يتسابقان للعثور على استراتيجية للخروج من العراق... وأنا واثق من أن هذا سيتم النظر إليه باعتباره يمثل أخباراً طيبة بالنسبة لمعظم العرب والمسلمين الذين ينتظرون أن تلحق المهانة بالأميركيين في العراق عندما يجبرون على الخروج بطريقة أبعد ما تكون عن الكرامة.

حسناً ربما يحقق هؤلاء رغبتهم بالفعل. إن الرؤية الجمهورية لما يطلق عليه الرئيس جورج بوش أسلوب quot;قطع المهمة والهروبquot;، تتضح أمامنا شيئاً فشيئاً الآن، من واقع التعليقات الأخيرة التي أدلى بها الرئيس بوش نفسه الذي يقول الآن إنه سيطبق أي توصيات يوصي بها قادته العسكريون بشأن الكيفية التي يجب التصرف بها في العراق. وهذه هي الطريقة التي سيلجأ إليها بوش لتمهيد الطريق لإعلان انسحاب القوات الأميركية حيث سيحاول التنصل من مسؤوليته وإلقاءها على عاتق القوات المسلحة الأميركية التي يحاول الآن إخراجها من العراق بعد أن قام بإدخالها إليه. وسيكون الخط الرسمي للخطاب الذي سيتم اتباعه هو القول بأن العراق الآن في قلب حرب طائفية بسبب رفض شعبه للوسائل الديمقراطية في التعامل بين أطيافه المختلفة، وأن الولايات المتحدة حاولت جاهدة أن تحقق أهداف مهمتها هناك دون جدوى وأن الوقت قد حان لسحب قواتها. أما الديمقراطيون فقد تحولوا إلى خطة راديكالية مقترحة من قبل السيناتور quot;جون بايدنquot;، والذي قد يرشح نفسه لمنصب الرئيس، وفريق مستشاريه المتخصصين في شؤون السياسة الخارجية، والذين يدعون لتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات صغيرة، شيعية وسُنية وكردية، وهو ما يرقى إلى إحراق العراق ثم قطع المهمة والهروب.

ولكن قبل أن نبتهج بذلك، دعونا ننظر فيما يعنيه الانسحاب الأميركي من العراق في الوقت الراهن. وإذا ما كان الدخول للعراق قد تحول تدريجياً إلى ورطة، خصوصاً إذا ما أخذنا في اعتبارنا الفرضيات التي قدمتها الإدارة لشن الحرب عليه، فإن جميع الخبراء تقريباً يقولون الآن إن الخروج من العراق بناء على فكر منحرف أو خاطئ سوف يكون بمثابة كارثة محققة. وسواء كنت عزيزي القارئ مع أميركا أو ضد أميركا فإن الحقيقة هي أن الحرب قد تحولت إلى صراع مصيري للمنطقة وللنفوذ الأميركي الخارجي. والكثير هنا يتوقف على الطريقة التي ستغادر بها القوات الأميركية العراق، وهذا ما يرجع إلى أن الحرب التي تدور فيه حالياً هي أول صراع كبير في القرن الحادي والعشرين، منذ أن نجحت أميركا في هزيمة الشيوعية. ففي الوقت الراهن تجد الولايات المتحدة نفسها في العراق كما في غيره تواجه تحديات سياسية خارجية لا تقل أهمية عن التحدي الذي كانت تمثله لها الشيوعية. ومن أهم تلك التحديات الزحف الجهادي في الغرب والشرق، والابتزاز النووي الذي تمارسه كل من كوريا الشمالية وإيران، وسعي المزيد من الدول للانضمام للنادي النووي، وسعي أميركا إلى اقتصاد معولم مع محاولة المحافظة على نصيب الأسد فيه، وإدارة شؤون العلاقات مع الصين والصراع العربي- الإسرائيلي الذي يبدو بلا نهاية.

بعبارات أخرى يمكن القول إن رفاهية أميركا ذاتها تعتمد على الكيفية التي ستتعامل بها مع موضوع العراق، والتي ستواجه بها تحديات السياسة الخارجية. فالحسم في موضوع العراق سيسهل ذلك، أما قطع المهمة والهرب فسيجعل الآخرين يتجرؤون على تحدي الرؤية الأميركية للمستقبل. فالولايات المتحدة إذا ما خسرت الحرب في العراق لن يكون بإمكانها أن تأمل في السيادة على أية دولة أخرى. ولكن ما هو تعريف النصر في العراق؟ إن أي تعريف يجب أن يتضمن قدراً من quot;الاستقرار الداخليquot; من خلال quot;ديمقراطية عاملةquot; يتم فيها احترام quot;تكامل ترابها الإقليميquot; وquot;استقلالهاquot; من قبل الجيران.

والحقيقة أننا بعيدون عن ذلك في العراق. فاقتصاد البلد تحول إلى أطلال، وإنتاجه النفطي تجمد على الرغم من احتياطياته الأسطورية، ومعدل القتلى اليومي وصل إلى 40 شخصاً يتم اغتيالهم بواسطة عراقيين آخرين، وهو ما أدى إلى فرار مليوني عراقي.

وإذا ما تركنا العراق يتدهور أكثر من ذلك فإن النتيجة المحتمة هي نشوب حرب أهلية ستستمر ما لا يقل عن عقد من الزمان أو أكثر... وهو ما سيعني أن quot;الأغلبيةquot; الشيعية في العراق ستصبح تحت السيطرة التامة لدولة جهادية كبرى في المنطقة وهي إيران، في حين سينجذب سكان العراق السُّنة بشكل فوضوي لسوريا والسعودية، كما أن الطائفية التي ظهرت في العراق ولبنان، ستهاجر لتكتنف المنطقة بأسرها، والتي هي عبارة عن أطياف متنوعة من العرقيات. وهكذا فإنه بدلاً من أن تكون لدينا دولة فاشلة واحدة وهي العراق، فإن التجربة العراقية ستكرر نفسها في الأردن المجاور (الفلسطينيون ضد الأردنيين)، وفي تركيا بين الترك والكرد، وفي سوريا بين العلويين والأغلبية السُّنية، بالإضافة إلى تنشيط وتعزيز وضع المتطرفين الوهابيين في السعودية. وفيما وراء هذه الحلقة، ستمتد الفوضى إلى لبنان القريب جداً من إسرائيل كما رأينا خلال الصراع الذي اندلع الصيف الماضي. هل هذه رؤية جهنمية؟ نعم إنها كذلك... كما أنها تختلف تماماً عما كان يقال في مرحلة التحضير للحرب عندما كان quot;المحافظون الجددquot; يفندون كل التنبؤات التي كان يقدمها كل من يختلف معهم لما ستؤول إليه الأوضاع في العراق.

بعد ذلك كله، سيكون أمراً كارثياً أن يقوم زعيما أكبر دولتين ديمقراطيتين في العالم، وهما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بتسليم مقاليد سياستهما الخارجية لمؤسستيهما العسكريتين كوسيلة للخروج من العراق دون الخضوع لأية مساءلة أمام شعبيهما اللذين لم يقوما بالتصويت لمؤسستيهما العسكريتين كي تقوم بصنع السياسات.

وإذا ما كان جورج بوش وتوني بلير يريدان قطع المهمة والهرب من العراق، فإنهما ملزمان في تلك الحالة بأن يخبرا شعبيهما عن السبب الذي يدعوهما لذلك وما الذي سيحدث لاحقاً!