الجمعة: 2006.10.27

يوسـف إبراهيـم

حان الوقت لإخراج الخطة quot;بquot; في العراق. وعلى الرغم من أن عبارة استحالة التقدم إلى الأمام من العبارات القبيحة، فإنها تذكرنا بالوضع الذي كنا نواجهه في فيتنام خلال ستينيات القرن الماضي، إلا أن الحقيقة هي أن هذا هو وضعنا الحالي أيضاً في العراق، والذي لم يترك أمامنا من خيار سوى الخروج. جميع الحقائق الواقعية في العراق تقود إلى ذلك الاستنتاج. فالشيء الذي تجاوز مجال الجدال في العراق حالياً، هو أن هذا البلد قد انزلق إلى ما يمكن اعتباره بمثابة إعادة إحياء لصراعاته الموروثة، بكافة تجلياتها العرقية والدينية والعشائرية، والتي كان قد تم قمعها طويلاً بواسطة القبضة الحديدية لنظام صدام حسين. تلك الصراعات التي ينوي العراقيون بأطيافهم المختلفة توصيلها عبر حمامات دم إلى حدها الأقصى.

والولايات المتحدة ليست في حاجة للبقاء هناك ولمشاهدة تلك المذابح التي ستتفاقم بواسطة عراقيين ضد عراقيين، لأن وجودها يوفر ذريعة للقوى العراقية المنغمسة في تلك الأعمال البربرية لتوجيه تلك الأعمال ضد قوات الاحتلال.

والحقيقة أن القتال الذي يدور في العراق لم يكن قتالاً تسبب فيه الأميركيون، ولكنه كان قتالاً مُحتماً حدوثه. وهذا القتال يحدث في أماكن أخرى من العالم العربي؛ مثل فلسطين والجزائر ولبنان والجزيرة العربية... سواء فيما بين السكان أو ضد الحكومات، وسواء أكان بسبب الثقافة القبلية السائدة والعاجزة عن التصالح مع التعددية وقبول الانخراط في المجموع، أو بسبب الموقف من الآخر. والعديدون منا حذروا من خطر اندلاع الحرب الحالية في العراق، وذلك قبل أن تبدأ، وها هم الآن يشاهدونها وقد تجسدت بكافة تفاصيلها أمام أعينهم.

واليوم يجب علينا أن نتوصل إلى استنتاج حتمي، هو أننا لا نستطيع أن نحقق أي هدف من الأهداف التي حددناها للعراق، والتي كان يمكن أن تجعل مشروعنا هناك مشروعاً يساوي الثمن الباهظ الذي تم دفعه حتى الآن.

فالأمر المؤكد هو أنه لن تكون هناك ديمقراطية في العراق، لأن غرس القيم الديمقراطية يحتاج إلى أجيال... وعلاوة على ذلك، لن يكون هناك استقرار في هذا البلد، لأن الاضطرابات السائدة فيه تتغذى من منابع الشرق الأوسط الذي يحفل بالعديد من التناقضات المماثلة، والرؤى المغلوطة، والأفكار المهووسة التي توفر الوقود للحرب الأهلية المشتعلة الآن في العراق.

ومن هذا المنظور يمكن القول إن الوضع في العراق أخطر بكثير من ذلك الذي كان سائداً في فيتنام. ففي فيتنام، كان الشيوعيون يمتلكون وضوحاً في الرؤية، وكانوا يعرفون ما هو الشيء الذي يسعون إلى تحقيقه، كما أن قوائم المرمى كانت ثابتة أمامهم وواضحة تماماً.

أما في العراق فإن أميركا اصطدمت بالأهواء السائدة في العالم العربي الفاقد للاتجاه بشكل عميق، والذي يحس بالمرارة والغضب، والذي يمر بحالة من الاضطراب الشديد، ولا يعرف من يوجه إليه اللوم في الأساس... فراح ينقض على أول قوة خلاص جاءت تطرق بابه.

في العراق سيتم تحريك قوائم المرمى بشكل دائم بحيث لا تلوح هناك نهاية في الأفق.

وقد لخص فؤاد عجمي، المفكر المرموق المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، الوضع العراقي بشكل جيد في تحليله النافذ الوارد في كتابه الموسوم quot;هدية الغريبquot;، عندما قال إن quot;رحلة أميركا إلى الشرق الأوسط قد انتهت إلى مغامرة وجدت نفسها فيها وجهاً لوجه أمام سخائم السياسة العربيةquot;. فعلى الرغم من أن أميركا كانت تتوقع أن تقابل هناك بالترحاب لأنها خلصت الشعب العراقي من ديكتاتورية صدام حسين ونظامه الذي بلغ في قسوته حداً مذهلاً، فإنها قوبلت بدلاً من ذلك بـquot;الحقائق المريرة للاستبداد والطائفية ومعاداة التقدمية والرفض المتعمد لتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقيةquot;، كما يقول عجمي.

والكثيرون منا ينتمون إلى المنطقة ذاتها، كعجمي نفسه، وكان يحدوهم الأمل الصادق في أن يتم علاج العلل العربية من خلال التفاؤل والحيوية الأميركية، لكننا رأينا ما حدث هناك ورأينا كيف فرغ إطار عربة التغيير الأميركية من الهواء.

والمرض السائد في العراق يتفشى في المنطقة بأسرها حيث يمكننا أن نتعرف على أعراضه في أوساط الفلسطينيين، والمصريين، والجزائريين، والسعوديين والإيرانيين... وأن نرى الملايين من سكان تلك البلاد وهم على استعداد للانخراط في ممارسات مدمرة من تصفية الحسابات بدلاً من السعي للتحرر من أشباح الماضي، أو الوصول إلى شيء شبيه بالديمقراطية.

والسؤال هنا هو: ما الذي سيحدث إذا ما خرجت أميركا من العراق، وهو شيء يتحتم أن تقوم به في نهاية المطاف؟

في الحقيقة أن هذا السؤال ليس هو السؤال الصحيح هنا، أما السؤال الصحيح فيجب أن يكون كالآتي: ما الذي سيحدث إذا ما بقيت؟

إن أي أمل في إنقاذ دعائم أي حل أميركي نهائي سيتبخر، عندما تصبح القوات الأميركية وزعماء أميركا السياسيون متورطين حتى النخاع في جدل عقيم مع الوسطاء التابعين للدول المجاورة للعراق؛ مثل إيران وسوريا وغيرهما ممن يعملون على إذكاء نيران الحرب الطائفية وتوفير الوقود لها باستمرار.

والمشروع الأميركي في الشرق الأوسط -رغم كل شيء- يهدف إلى غرس قدر من التحضر في مجتمعات تعاني من عيوب عشائرية عميقة وتهيمن فيها قبائل على مقدرات قبائل أخرى وتغير قبائل فيها على قبائل أخرى وتستأثر بكل الغنائم.

وعندما تتعب تلك الأطراف من ذبح بعضها بعضاً، كما يحدث عادة في الحروب الأهلية، فإن النموذج الأميركي يجب أن يبقى ماثلاً أمامهم في الأفق كي يتطلعوا إليه باعتباره أملاً بديلاً.

أما إذا ما اكتفت أميركا بالعمل كجليسة أطفال في الحرب الطائفية الضروس التي تدور حالياً في العراق، فلن يكون لديها حتى مثل هذا النموذج كي تقدمه... وهو ما يدعونا للقول إن كل ذلك يجب أن يتوقف الآن.