الجمعة: 2006.11.10
شيء ما
د. حسن مدن
كنت أمس في مسقط، عاصمة سلطنة عمان الشقيقة، للمشاركة في مؤتمر وزراء الثقافة العرب الذي انعقد هناك في إطار فعاليات سلطنة عمان باختيار مسقط الجميلة عاصمة للثقافة العربية للعام الجاري 2006. واستمعت بحرقة وألم، كما سواي من الحاضرين، إلى مندوب العراق في المؤتمر، وهو يعلن اعتذار بلاده عن قبول اقتراح تقدمت به المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم باختيار بغداد عاصمة للثقافة العربية عام 2009.
شكر المندوب العراقي مقدمي الاقتراح وهو يشرح أن هذا تكريم منهم لبغداد التي هي مهد الثقافة العربية الإسلامية في أوج مجدها في غابر الزمن، ولكن الظروف الصعبة التي يعيشها العراق، وبغداد في القلب منه، تجعل من المتعذر التحضير لفعالية بهذا الحجم. ولم يكن أحد بوسعه أن يلم ممثل العراق على اعتذاره، فالحاضرون جميعاً من أهل الكار، لأنهم يمثلون الجهات المعنية بالشأن الثقافي في بلدانهم، والكثيرون منهم خبروا تجربة اختيار عواصمهم أو مدن من بلدانهم عواصم للثقافة العربية منذ أن انطلق هذا المشروع على النطاق العربي.
لكن كل الموجودين أحسوا بفداحة الأمر، كأن مداخلة المندوب العراقي لفتت الأنظار مجدداً إلى جرحنا الكبير، الجديد، بعد جرح فلسطين في الجسد العربي الذي تدهمه النصال من الجهات شتى .وحين يتصل الأمر بعاصمة عربية أن تعتذر عن اختيارها عاصمة للثقافة فإن في الأمر ما يدعو للقلق، لكن حين يأتي الاعتذار من بغداد ذاتها ليس لأنها لا تريد وإنما لأنها لا تستطيع بسبب الاحتلال الغاشم، وقبله بسبب طغيان الديكتاتورية التي كانت ترسل الشبان للحروب بدل أن ترسلهم إلى الجامعات ومعاهد المسرح والفنون التشكيلية، فإن ذلك علامة على أن الخراب توغل عميقا وبعيدا فطال النخاع.
بغداد التي عاش فيها السكان منذ حوالي أربعة آلاف سنة قبل الميلاد يوم كانت تشكل جزءا من بابل، والتي بنى أبوجعفر المنصور على أرضها عاصمة الخلافة العربية الإسلامية التي تحولت إلى منارة للفكر والعلم والفلسفة والشعر في عصورها الذهبية خاصة إبان حكم هارون الرشيد، والتي أسس فيها ابنه الخليفة المأمون دار الحكمة التي كانت داراً للترجمة والتأليف والجدل الفكري والفلسفي الذي أعطى الحضارة الإنسانية واحدة من أخصب حقبها، حين وصل الفلاسفة والعلماء العرب المنقطع من الحضارة الإغريقية، وأضافوا اليه وأغنوه بالجديد والفريد، لتصبح بغداد في ما بعد جسرا بين الشرق والغرب قبل أن تنقض عليها همجية هولاكو ومن بعده تيمورلنك فتحرق مكتباتها وتحيل زرقة نهرها إلى سواد بسبب أحبار الكتب والمجلدات التي أهرقت في مياهه، في مظهر من مظاهر نقمة الهمجية على الحضارة.
البربرية الجديدة ممثلة في بوش ورامسفيلد وسواهما فعلت أمرا لا يقل بشاعة في بغداد اليوم ، حيث سرقت محتويات متحفها العظيم، وهربت مقتنياته في أسواق التجارة السوداء، وفي البلد الذي كان يضج بالأشعار العظيمة للجواهري والسياب والبياتي وبلند الحيدري ونازك الملائكة وبإبداعات جواد سليم وفايق حسن ومسرحيات يوسف العاني وسواهم يرتفع فحيح أفاعي الطائفية والمذهبية ويستباح من المحتلين القادمين من البعيد ومن محترفي القتل والذبح من كل ملة.
محنة كبرى، أن تعجز عروس المدائن ودرة التاج في الحضارة الشرقية والإنسانية، ومصهرالثقافة والفكر والشعر والابداع في دنيانا العربية بسبب المحتلين والطغاة من أن تكون عاصمة ثقافية للعرب ليس الآن فقط، وإنما بعد سنوات من الآن.
التعليقات