أنا أقرب إلى المعري من حيث عدم الإيمان بالإنسان ونيتشة مؤمن أكثر مما تحسب سواء بالله أم بالإنسان
تشومسكي وأركون وأدونيس ونصر حامد أبو زيد مؤمنون أكثر مما يحبون

أقدم نفسي بصفتي الكونية باعتباري فرداً من الناس أما كوني لبنانياً أو عربياً أو مسلماً فهذه أعراض
النخبوي صاحب الدور الرسولي تكتب نهايته مجريات العالم وتحولاته
دعاة الحداثة هم الأقل حداثة




خالد بيومي - القاهرة


يواصل المفكر والفيلسوف اللبناني علي حرب نشاطه المعرفي من خلال التركيز على قراءة الثقافة العربية بمختلف أبعادها ومكوناتها الحديثة المستقبلية ويجد نفسه دائماً في المواجهة اذ تصطدم أفكاره وقناعاته بقضايا الفكر والثقافة حين تلامس مفهوم الحرية والهوية والحداثة ويصل معها الى مواجهة نقدية تفتح باب النقاشات على مداها .قدم حرب للمكتبة العربية أكثر من عشرين كتاباً درس منها كتاب نقد النص في جامعة باريس التقيناه في القاهرة في هذا الحوار الذي تحدث فيه عن الهوية.. ووصفها بأنها أغنى وأوسع وأشد تنوعاً وتركيباً من ان تحشر تحت عنوان واحد أو وحيد ان أحادية الاسم أو الاصل ولو حاول المرء ان يتأمل أحواله وأن يخضع هويته للفحص والكشف يجد أنها خليط معقد أو نسق مركب من تعدد الوجوه والاطوار أو تنازع الميول والاهواء أو تداخل العقائد والطقوس أو تشابك التأثيرات والتفاعلات اي كل ما يسهم في تغذية حياة الانسان وفي تكوين شخصيته من العناصر والروافد أو الحوافز والمقاصد أو الخبرات أو التجارب في إطار اجتماعه مع سواه او في سيرورة إقامته في العالم واندراجه في أمكنته المتجاورة وأزمنته المتعاقبة..

-هل هذا سعي للانفكاك عن الاصل؟

- من هذا المنظور ليست هوية المرء مجرد انعكاس لاصل ثابت أو مجرد مماحاة خاوية مع النفس وإنما هي صيغة مركبة وملتبسة بقدر ماهي سوية مبنية على التعدد والتعارض وهي عقدة من الميول والاهواء بقدر ماهي شبكة من الروابط والعلاقات وهي توليفة من العقائد والمحرمات بقدر ماهي سيرورة نامية ومتحركة من التحولات والتقلبات.

- انت شخصياً كيف تفهم أو تمارس هويتك ؟

- عندما أشرح هويتي اجد أني كائن معين هو مجرد خليط او كوكتيل من الاطوار والوجوه أو الميول والاهواء أو العقد والترسبات أو الاحلام والتطلعات بمعنى أنني أكتفى بأن لي هوية مركبة مفتوحة على التعدد بقدر ماهي منسوجة من الالتباس والتوتر .

-ما أهمية التشديد على هذا التفكيك للهوية من خلال عبارات الخليط والكوكتيل والهجنة ؟

- لنعترف بذلك إذا شئنا الخروج من الانفاق والدهاليز والسجون التي تقودنا اليها مفاهيم الصفاء والتجانس.

-أراك تصر على استبعاد صفاتك الدينية والمجتمعية؟

- أنا أقدم نفسي بالدرجة الاولى بصفتي العالمية أو الكونية باعتباري فرداً من الناس أو كائناً بشرياً بين بقية الكائنات من غير مفاضلة أما كوني لبنانياً أو عربياً أو مسلماً أو شرقياً فهذه أعراض تشكلت لكي أحسن عرض نفسي من خلالها على العالم أو وسائط لكي أحسن التبادل مع الآخرين أو شروط لا ينبغي ان أقع أسيراً لها بل أعمل عليها لكي أتحول عما انا عليه بحيث أضع كونيتي بممارسة متعتي وازدهاري بما أنا قادر على خلقه وتحقيقه.

- دائماً ما تقسو على التحتية الثقافية وتحملهم المسئولية عن تردي أوضاعنا لماذا ؟

- لان أبرز ما تمارسه التحتية الثقافية هو احتكار المشروعية المعرفية والخلقية وممارسة الوصاية على قيم الحقيقة والحرية والعدالة والوجه الآخر لاحتكار المعرفة هو احتقار الناس والتعامل معهم كقطيع بشري لا وعي له ولا عقل.
لقد ولى الزمن الذي يدعي فيه مثقف التنظير نهوض أمة أو يزعم سياسي بأنه يمتلك مفاتيح الحلول فذلك أنتج الكوارث والهزائم خاصة في عالمنا العربي ان نمط المثقف النخبوي صاحب الدور الرسولي تكتب نهايته مجريات العالم وتحولاته ونحن الان ندخل في زمن يتشكل فيه المجتمع التداولي حيث يسهم كل الفاعلين والمنتجين في مختلف حقولهم وقطاعاتهم في عمليات البناء والتنمية والاصلاح ما تحتاجه اليوم في ما نطرحه من أفكار ومشروعات أن نحسن تداول الافكار وتبادل الخبرات والمنافع.

-أعرف أنك ناقد للحقيقة ولكن أين أصبح نقدك للحقيقة فيما الحقيقة هي الان مطلب وشعار فيما يتعلق بالجرائم والاعمال الارهابية ؟

- الحقيقة بحسب مفهومي هي ما نقدر على خلقه أو تغييره من الوقائع والاوضاع وكل خلق هو عمل خارق له مفاعيله التوليدية أو التحويلية طبعاً الحقيقة هي على المستوى المعرفي أو التنويري هي ما ندركه أو نقدر على كشفه وإظهاره وهي على المستوى الايديولوجي ما نشهد له او ندافع عنه حتى الشهادة ولكن الحقيقة على المستوى الوجودي تتجلى في القدرة على الخلق والابتكار أو على ممارسة الحضور والتأثير.

- لك اهتمام خاص بقضايا المرأة أين أنت الان من هذه القضية ؟

- المرأة هي كأي كائن مثار للالتباس والحيرة والتوتر اذ معها يمكن ان ننتقل من حال الى حال او نتقلب من الضد الى ضده قد تكون المرأة في حال من الاحوال الفردوس وذلك عندما تسير الامور على ما يرام بين الشريكين خاصة اذا كانا حبيبين ولكن قد تنقلب المرأة الى جحيم عندما تسوء العلاقة بين الشريكين وماكان فردوساً أو روضة أو لذة قصوى يمسي سجناً أو كابوساً أو جنة.. وأصحاب الحظ السعيد من الشركاء هم الذين يحسنون التعامل فيما بينهم بحيث لا تستنفذ العلاقة بين الواحد وشريكه بل يبقى هناك دوماً وجه لدى الآخر يمكن اكتشافه أو مجال يمكن خلقه فلا سعادة أو بهجة من غير خلق أو إبداع .

- صدر لك حديثاً كتاب raquo;نظرية العقل التداوليlaquo; ما مضمون هذه النظرية ؟

- العقل التداولي مفرداته التواضع الوجودي والاعتراف المتبادل والبعد المتعدد، الفكر المركب، ولغة الحوار والتعايش والتسوية والمسئولية المتبادلة عن مصير الانسان والارض والحياة.

- ما الذي تضيفه على نظرية العقل التواصلي لدى مابرماس ؟

- مابرماس بقي حتى طور متأخر نسبياً يقف سلبياً من المنجزات القارية لما بعد الحداثة مع انه تأثر بها بشكل او بأخر ولهذا الفاعلية التواصلية ظلت عنده محصورة في نطاق المشروع الحداثي بعناوينه وعدته اي هي بنت عقلانية القرن الثامن عشر بمعنى ان مابرماس يعتبر ان مشكلة التنوير تقع خارجه وهذا ما اعترضت عليه، لاني اعتبر ان مشكلته هي مشكلة بنيوية في مفهوم الذات اي في طابعه النخبوي وفي منطقة المتعالي ومفاهيمه المحصنه، بينما العقل التداولي يتبطن المنهج التأويلي والنقد العقلاني ويستثمر المعرفة والفاعلية، والتفكيكية وفلسفة الاختلاف لصوغ وجهة جديدة من مفرداتها نقد النص، نقد الحقيقة، نهاية المثقف، الهوية الهجينه، الانسان الادنى.

- هل هذه الازمة كافية لكي يكتسب مصطلح العقل التداولي مصداقيته ؟

- مصداقيته في ضوء ما يتغير انه يعمل على اعادة النظر في مفهوم المصداقية اوالمشروعية بالتخلي عن اقانيم المطلق والاعلى والاقصى والاحادي والشمولي والنهائي للاشتغال بلغة التحدد والتوسط او التحول والخلق او التركيب والتجاوز. فالمشروعية السياسية هي ثمرة المحاورة والمناقشة والمشاركة كما ان المصداقية المعرفية هي ثمرة التوليف الخلاق بين تعدد القراءات والمغاربات والاتهامات اما الاصولي والاحادي والنهائي فما له الاقصاء والمصادرة والاحتكار. وليس لاحد ان يدعى احتكار المشروعية تحت اي شعارات، اذ ليس بوسع احد القبض على حقيقة الواقع او هوية الاصلي او معنى النص او ان يستشرف ما يمكن ان يؤسس كما ينبغي ان يكون، فالواقع هو في غاية التنوع والتعدد والتشابك والتعقيد والحراك.

- اراك تبالغ في قتامة الصورة ؟

-- من كان يصدق قبل عقود ان يتصور أن يتحول العراق الى برك للدماء او الى ركام من الحرائق والانقاض، من كان يحب ان رجال الدين يتصدرون الواجهة بل من كان يتصور ان تنتعش الاصولية في الولايات المتحدة اكثر المجتمعات حداثه وغنى، من كان يتوقع ان تشهد كل هذا الارهاب .


- بماذا يتميز نقدك عن نيتشه ؟

- نيتشه مؤمن اكثر مما تحسب، سواء بالله ام بالانسان وكلاهما وجهان لعملة واحدةكما يشهد عليه كتابه raquo;هكذا تكلم زرادشتlaquo; الذي قدمه للبشرية على انه انجيل جديد سوف تجد فيه خلاصها فكيف يكون عدمياً من يقول هذا هو طريق الخلصاء، او كيف يكون مؤمناً من ينادي بأنجيل جديد ؟.. هذا شأن اكثر الدعاة والمثقفين الذين تصنفهم تحت خانة العلمانية، انهم مؤمنون اكثر مما يحبون، ربما يعينه الايمان والتقديس والتعبد والاصطفاء والاعتقاد بامتلاك الحقيقة او تجسيد اعلى القيم على ما نجد لدى تشومسكي او اركون او ادونيس او نصر حامد ابو زيد، انهم مؤمنون بالانسان والتقدم والاستنارة والحداثة، والعقلانية والديمقراطية حتى البربرية والتخلف والتقليد واللامعقول والاستبداد، كما هم مؤمنون بالحقيقة والحق والعدالة حتى الكذب بهذا المعنى انا اقرب الى المعري من حيث عدم الايمان بالانسان والافتقار الى اليقين واعتبار الحياة بمثابة افخاخ لنتعرف ليس الانسان الكائن الاسمى والافضل لعله الاشرس والاكثر وحشية وضرراً على بنى نوعه وعلى بقية الانواع، ها هي نفاياته تكاد تلوث الارض والسماء.

-اصدرت كتاب raquo;الحب عند العربlaquo; ما مفهومك للحب ؟

- الحب اقصد به العشق، كما يقول العرب هو حالة استثنائية تجتاح العاشق اياً كانت ظروفه وازمته، ايقاعاته او الاطياف التي تصنعه وهذه الحالة اشبه بكمياء تحيل كل ما عند المعشوق الى حسنات وجمالات في عين العاشق.. الامر الذي يحيل كل ما يتصل بمن نحبه ونعشقه الى عالم ساحر وجذاب وآسر ... بقدر ما يجعلنا نذهل عن كل ما سواه.. او نجن به ومن هنا سمى العرب العاشق raquo;المجنونlaquo; وهذا من اجمل ابتكاراتهم، غير ان الحب لانه حالة استثنائية لا يدوم خاصة عندما ينخرط العاشقان في حياتهما اليومية والاعتيادية بل يأخذ بالتآكل والتصدع وهذا مآزقه ورعبه.

-نراك تدعوا لما بعد الحداثة في حين هناك من يرى ان العالم العربي او الاسلامي لم يدخل في الحداثة بعد، ما العوامل والموانع التي تجعلنا نستعصي على عمليات التحديث ؟

- ثمة دعاة للحداثة من المنظرين والمفكرين يقولون لنا انه لاحداثه عندنا او لم يدخل العالم العربي بعد في الحداثة الفكرية وهذا حزب من المشعوذه الايديولوجية .. ذلك ان دعاة الحداثة هم الاقل حداثة، بقدر ما اثبتوا عجزهم عن التحديث والتطوير في حقول المعرفة وطرائق التفكير وشيكات الفهم وقد يعيشوا زمناً على المقولات الحديثة كالعقلانية والاستنارة والحرية والديمقراطية والتنمية.
لكنهم لم يستحدثوا الجديد الذي يخرق السقف ويخلق مجاله التداولي على ساحة الفكر العالمي، ذلك لانهم تعاملوا مع الافكار والقضايا الحداثية بصورة تقليدية نمطية ضمنية تراجعية بقدر ما تعاملوا مع الاحداث والتحولات بصورة احادية وحتمية تبسيطه والنتيجة التعثر والفشل والاخفاق. وانها لفضيحة من فضائح المثقفين ان ينكروا على العالم العربي حداثته او ان يرموا على من سواهم تهمة التخلق والعجز في حين انهم من الذين اخفقوا في المهمة المناطة بهم من فرط الادعاء والتهويم.

- دائماً ما يثار الخلاف او السجال حول اعمالك بل الهجوم عليك شخصياً ... لماذا ؟

-- مهمتي بوصفي مشتغلاً بالحقل الفلسفي ان اتقن عملى، والفلسفة بوصفها خبرة وجودية وصناعة مفهومية هي فاعلية نقدية، بها قد نكسر القوالب الذهنية او تخرج على العادات الفكرية والثوابت المعرفية المستقرة في الحقول المطمئنة الى المغلقة او الخاوية، من ذلك ان التحليل الفلسفي قد يبين لنا ما تعده يديهما معقولاً او مقدساً او مشروعاً او ثابتاً هو على العكس من ذلك ان يخفي هذه او يستدعي نقيضه او يؤول الى عكسه او ينتهك معناه بمعنى اخر، انه يبين انه ما نحسبه العلاج والحل قد يكون الداء والآفة او ان ما تقدره وتعلي من شأنه، هو مصدر ما نشكو منه وذلك بقدر ما يسلبها الضوء على ماهو مستبعد او معتم او فاضح، او بقدر ما ينجح في تفكيك ما هو مستهلك او ممتنع او مفتقر الى المصداقية والمشروعية عامة وليس العمل الفلسفي في ذلك مجرد تمرين ذهني انما هو مراسي وجودي يكسر المنطق المألوف ويقلب الحسابات العقلية لكي يفتح امكانيات للتفكير والعمل بفتح ممارسة معتمة او تفكيك قيد او حزف شرط او تغير معادلة او خلو فرصة.

فالجديد الفلسفي والخارق هو اشبه بكمياء لها مفاعيلها التنويرية والتحويلية اذ به تتغير على وجه ما .. من هنا يجد ممانعة او معارضة تصل احياناً الى حد التهجم والاتهام خاصة من جانب العقول الاصولية المغلقة وومن بينهم عاملون في الحقل الفلسفي انها ممانعة المريض في مواجهة تشخيص حالته او عجز القاصر عن حمل مسئووليته او امتناع المسئول عن حمل مسئووليته والاعتراف باخفاقه.