إلياس سحّاب


قبل ثلاث سنوات ونصف السنة، تحركت الولايات المتحدة لدخول العراق، ضد ارادة جميع اعضاء المجتمع الدولي يومها، لأنها رأت في ذلك ضرورة حتمية لتأمين مصالحها.

واليوم، وقبل سنتين من موعد خوض المعركة الرئاسية في أمريكا، تتعجل الادارة الجمهورية للنظام الأمريكي، البحث في السيناريوهات الافضل للخروج من العراق (بعد الاقرار المبدئي للفكرة)، لأنها ترى في ذلك ضرورة حتمية لاستخلاص المصالح الأمريكية المتدهورة في العراق والمنطقة العربية من جهة، ولتحسين الشروط المحيطة بمصالح الحزب الجمهوري في معركة الرئاسة القادمة، بعد هزيمته النكراء امام الحزب الديمقراطي، في معركة انتخابات المجلس النيابي ومجلس الشيوخ.

قد يبدو الأمر، الذي سيغرق بين بدايته الدموية، ونهايته الوشيكة، عدداً محدوداً من السنوات، قد يبدو من الامور العادية في الصراعات السياسية، خاصة بمداه الزمني القصير، لولا ان حدثاً جللاً قد وقع بين البداية الدموية والنهاية المرتقبة، بين الدخول الأمريكي القسري والوحشي للعراق، والخروج الأمريكي المتوقع من العراق.

وهذا الحدث الجلل يتجاوز كثيراً في أهميته بشاعة المجازر الانسانية التي اصبح معدلها الشهري، في الآونة الاخيرة، يتجاوز الثلاثة الاف ضحية، إلى ما هو ابشع وافدح، هو أنه قد تم العبث الأمريكي بخفة لا نظير لها في التاريخ، بمكونات اقدم مجتمع بشري تكوّن عبر آلاف من السنين (قد لا يضارعه في القدم سوى تكون المجتمع المصري، والمجتمع الصيني)، إلى درجة تحويل المكونات البشرية البالغة الثراء لهذا المجتمع التي انصهرت بمختلف عناصرها العرقية والدينية والمذهبية والثقافية والحضارية، عبر آلاف مؤلفة من السنين، من مكونات وحد بينها الانصهار الحضاري الطبيعي على مدى آلاف من السنين، إلى مكونات متذررة قابلة لتفجر بعضها بعضا، في آلية شريرة جديدة، مناقضة لآلية الانصهار الحضاري التي تسود ارض العراق منذ آلاف السنين.

صحيح ان المجتمع العراقي قد خضع، ثلاثين عاماً ونيفاً قبل الغزو الأمريكي، لنظام متفرد في بشاعته الدكتاتورية عبر التاريخ ربما، لكن دكتاتورية النظام السابق لم تكن قد نجحت في ضرب الآلية التاريخية لانصهار المجتمع العراقي، لسبب بسيط جداً، هو ان مظالم هذه الدكتاتورية قد شملت كل عناصر المجتمع العراقي. وان اختلفت النسب، ولم يكن امام المجتمع العراقي ليعاود مسيرته التاريخية مع الاحتفاظ بآلية الانصهار الوطني، بل مع تطويرها وتحديثها، سوى النجاح في محاولاته المتكررة لإسقاط النظام الدكتاتوري، ولكن من داخل العراق.

وعندما كان الغزو الأمريكي يستعد لدخول العراق، تناقضاً مع ارادة المجتمع الدولي بأسره، كان مضطراً لتمويه مطامعه المباشرة التي لا مبرر سواها للغزو، بعدد من القضايا التي ثبت بطلانها بالتدرج: كالقضاء على اسلحة الدمار الشامل (التي لم يعثر لها على أثر) أو ضرب الارهاب ومحاصرة انتشاره (وهو لم يتوقف عن توسيع انتشاره في ظل الوجود الأمريكي في العراق).

قرار الانسحاب الأمريكي اصبح نهائياً. أما ما يدور بحثه الآن في واشنطن، فهو الرد على السؤال الوحيد: ما هي طريقة الانسحاب التي تؤمن لأمريكا الحد الاعلى من المكاسب، أو الحد الادنى من الخسائر؟

هناك طبعاً عدة سيناريوهات مطروحة للبحث، لكن أحد هذه السيناريوهات الذي يطرحه اصحابه (في الدوائر السياسية العليا) هو سيناريو عدم الانسحاب قبل اكمال تقسيم العراق عرقياً ودينياً وسياسياً.

طبعاً، هذا لا يمنع، نظرياً على الاقل، البحث في سيناريوهات أخرى، ولكن من دون اقامة أي اعتبار أو احترام لمصالح العراق أو العراقيين. ومع ذلك فإن أحد السيناريوهات المحتملة يتخيل صياغة حل للوضع العراقي المتفجر، بالتشاور بين السلطة العراقية الحالية (الكاملة الولاء لواشنطن، أو التنسيق معها على الاقل) وسلطة البلدين المجاورين للعراق والاكثر تأثيراً في اوضاعه الداخلية: ايران وسوريا.

اننا امام ذروة المأساة، عندما يكون مصير العراق الذي قد يستعيد وحدته، وقد يندفع بسرعة اكبر باتجاه التفتت والتشظي، بل والانفجار، بكل مكوناته التاريخية الغنية، عندما يكون هذا المصير مطروحاً في سوق النخاسة الأمريكية، لا تحدده فقط مصالح الامبراطورية العظمى، بل مصالح الحزب الجمهوري في صراعه مع الحزب الديمقراطي على مقعد الرئاسة.

يتم كل ذلك، وسط اخطار مشابهة تهدد أوطاناً عربية أخرى مثل فلسطين والسودان ولبنان، ووسط تراجع في الحياة العربية العامة (وليس فقط في السياسة العربية العامة) لم يعرف العرب له مثيلا، في القرون الأخيرة.