الخميس 30 نوفمبر 2006
جميل مطر
أهدرت ساعات ثمينة قضيتها أستمع إلى حديث السياسة في لبنان. قمت وقد زاد اقتناعي بأن لبنان كان، وسيبقى، نموذجاً عربياً بامتياز. شاهدت رموز أمة مازالت تعيش في زمانها ولا تريد أن تجرب زماناً جديداً. رأيت وجوهاً غلبت على ملامحها وخطابها الإثارة فتحار إن كان أصحابها فقدوا عزيزاً أم أن السياسة أكلت عقولهم وطغت على كل حواسهم بما فيها الإحساس الحزين بفقد عزيز، بدا لي، ولكثيرين غيري أن الاغتيال فرصة، وإن لم تعد نادرة على كل حال، للظهور على الشاشات والوقوف على المنصات. عرفت خلال الأيام الماضية كم صارت معظم بلادنا العربية نسخاً أخرى لصورة من صور كثيرة للبنان، لبنان الذي يحبه كل العرب وإن اختلفوا في أسلوب التعبير عن هذا الحب، شأنهم في هذا شأن اللبنانيين في التعبير عن عمق تدينهم وعمق ولعهم بالتحرر الأخلاقي في نفس واحد، وعن رغبتهم في العيش بحرية وفي ظل دستور محترم ومواصلة الاستمتاع بملذات الاستبداد في آن واحد. هذه الازدواجيات، مع ازدواجيات أخرى كثيرة، هتكت نسيج الأخلاق في المنطقة وغرست في الوحل هيبة السياسة والحكم وأهدرت في مسالك الضياع أحلام ملايين الشباب وآمالهم. تألمت، وعرفت أن مشاهدين كثرا في العالم العربي وفي لبنان بخاصة يتألمون كما أتألم، رأينا كيف أن شاباً تغتاله وجوه معروفة في شارع معروف وبين جيران معروفين، وبعد دقائق يخرج سياسيون في بيروت والقاهرة والرياض ودمشق ونيويورك ولندن وباريس إلى الناس بأفكار ومواقف بدت جاهزة للاستفادة الفورية من هذه الجريمة البشعة. يعود لبنان إلى أيام استعذب فيها الألم، ونعود، أو نبدأ معه في العراق وغير العراق أياماً أسوأ وأشد ألماً من كل أيامه السابقة.
قد يكون صحيحاً القول إن خصوصية لبنان تجعله ساحة مفتوحة لأجهزة استخبارات من كافة الدول النشطة سياسياً في العالم، وتجعله في مواجهة التدخلات الأجنبية وصراعات الدول على أرضه مرناً وليناً أحياناً وعنيفاً وشرساً في أحيان أخرى. اختلطت عليه السعادة بالشقاء كما حدث معه في يوليو/ تموز الماضي متنقلاً بين حال وحال في اللحظة الواحدة فتحتار لحيرته، تلهث مع لهاثه متنقلاً بين سعادة وشقاء. وقد يكون صحيحاً أيضاً أن سياسيين لبنانيين برعوا في تحقيق توازن بين أطراف ldquo;تعددية أجنبيةrdquo; خاصة فقط بلبنان والتدخل في شؤونه والوصاية عليه. وللحق يجب الاعتراف بأن في لبنان سياسيين وعقلاء استطاعوا تجنيد ظروف لبنان الخاصة لتخليص البلد من بعض الاختراقات الأجنبية أو تخفيف وطأتها على الأقل.
نسمع في كل عاصمة عربية، وليس في بيروت وحدها، هذه النغمة العربية الخالصة، ldquo;لنا خصوصياتناrdquo;. في بلد عربي نجد الدين دليل خصوصية، وفي بلد آخر نجد التاريخ الطويل أو التقاليد، وفي بلد ثالث يحدثونك عن الخطر ldquo;الإسرائيليrdquo; وعملاء الغرب. ما يجمع المتحدثين العرب هو الرغبة في ألا يهتز القارب كل في بلده فيتهدد الاستقرار، وعلى هذا الأساس تتعامل العواصم العربية أو أغلبها مع لبنان. لبنان الأمثل لكل العرب هو لبنان الذي نمارس فيه ما لا نقدر على ممارسته في أوطاننا، وهو لبنان الذي نكلفه بمهام لا نحب القيام بها بأنفسنا أو نخجل نفاقاً ورياء. لبنان هو الرئة التي يتنفس بها الفارون في الصيف وبعض الشتاء من سياسات التشدد والتقاليد المتبعة في بلادهم. وهو مكبر الصوت الذي ينقل إلى القاصي والداني ما لا تقوى مكبرات الصوت في بلاد عربية أخرى على إذاعته وبثه.
كلها مهام صعبة، وإلا لباشرتها بنفسها الأجهزة المختصة العربية سواء في الإعلام والفن أو الاستخبارات أو التآمر أو المال والأعمال، ووفرت على شعب لبنان تبعاتها وتداعياتها. إن بعض ما يُكلف به لبنان فوق طاقة حمله، فلا تركيبته السياسية ولا ظروفه الاجتماعية والاقتصادية الراهنة ولا منظومة أخلاقه الجديدة تسمح بأن يلعب أدواراً كان يلعبها، أو يقوم بمهام أو تجارب لا تريد الدول العربية أن تقوم بها على أراضيها بسبب صحوة في الرأي العام هنا أو هناك، أو بسبب حال نفاق اجتماعي وسياسي وصل إلى درجة غير مسبوقة. لبنان الراهن لا يصلح مثلاً لأن تجري على أرضه فتنة بين الشيعة والسنة تمنع بها فتنة أعظم في دول عربية أكبر، ولا يصلح لأن تعقد فيه صفقة جديدة لعلاقات مع ldquo;إسرائيلrdquo; تمهد للصفقة الأكبر التي يجري الإعداد لها لتبتلع جميع الصفقات السابقة. ولا يصلح، وأتمنى أن تدرك واشنطن هذه الحقيقة، لأن ينطلق من أراضيه شرق أوسط جديد. ويؤلمني أنني قرأت في كلمات بعض السياسيين في فضائيات لبنان ميلاً وأملاً في هذا الاتجاه. هذه المحاولة، إن صحت أنباء تتداولها، ستعرض لبنان لاحتمالات لا تقل هولاً عما يجري في العراق، وتكون حرب لبنان الأهلية بالنسبة لها نزهة أو حفل ألعاب نارية.
أمامنا توقعات عديدة لتطورات كبيرة في العالم وفي منطقتنا، بينها أو في مقدمتها توقع أن ينشأ فجأة في المنطقة العربية فراغ أو ما يشبه الفراغ، ولا أرى بالعين المجردة أو بالحدس دولة عربية منفردة أو مجموعة دول عربية متجانسة، ولا أستعمل عن عمد عبارة دول عربية معتدلة لسخفها وخبثها، قادرة على ملء فراغ فور نشوئه أو استعدت للقيام بهذه المهمة الاستراتيجية. ومع ذلك، أو ربما لهذا السبب، أتوقع أن يكون لبنان في قلب هذا الفراغ جاذباً وبشدة لقوى أخرى من خارج الإقليم.
إن السلبية الراهنة التي تميز الأداء السياسي العربي قومياً وإقليمياً ودولياً، ستؤدي، إن لم تكن قد أدت فعلاً، إلى أن دولاً أجنبية بدأت تستعد للتعامل مع احتمالات متباينة في المنطقة العربية، وأظن ازدحام لبنان بعناصر أجنبية شتى بين عسكريين ومدنيين واستئناف مسلسل الاغتيالات والتوترات الكلامية وتعدد الجيوش في الجنوب وتدفق الأسلحة مؤشرات على أن آخرين يستعدون لإشكالية ldquo;ما بعد العراقrdquo; في المسألة العربية.
التعليقات