محمد صادق الحسيني


لقد بات واضحاً الآن وضوح الشمس أن إعصار المحافظين الجدد بدأ ينكفئ شيئاً فشيئاً عن كل فضاءات العرب والمسلمين، فقبل ثلاث سنوات ونيف وتحديداً مع شرارة غزو العراق ظن البعض في بلادنا أنهم قدر لابد منه، وأول نتيجة لهذا الانكفاء laquo;البائنraquo; هو ظهور القوى الإقليمية مرة أخرى بمثابة لاعبين أقوياء لا غنى عنها في أية ترتيبات للمشهد الدولي الجديد، فقد عادت مصر إلى الظهور كلاعب أساسي في أية ترتيبات جديدة للصراع الصهيوني ـ الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي عموماً.

وصارت دمشق وطهران laquo;شرraquo; لابد منه لأي حل مرتقب لعراق المستقبل حتى على الطريقة الأميركية، وعادت ثلاثية أنقرة ـ طهران ـ دمشق التي كانت تحاول لأمد طويل قبل الغزو الدامي لبغداد إلى الظهور مجدداً لتلعب laquo;المظلةraquo; التي تحاول تخفيف ارتدادات وتداعيات تفجر الأزمة العراقية ـ العراقية والطائفية والمذهبية.

وانتعش المحور السوري ـ الإيراني من جديد ليظهر بمثابة الرادع الأهم أمام طموحات الغرب المتجددة باللعب بأوراق laquo;الحرب اللبنانيةraquo; المقيتة ومحاولة التلويح بها ليتخلى العرب والمسلمون عن بيروت عاصمة للتعايش والعيش المشترك لأنها البديل الحضاري الضد لدور الدويلة الإسرائيلية المخرب لهذا التعايش والعيش المشترك، وانتعش كذلك الدور السعودي التقليدي التاريخي المعروف تجاه لبنان والذي كان ولا يزال باستطاعته أن يفعل الكثير لإنقاذ لبنان من محن الاستقطابات والتوترات الداخلية.

لكنه في المقابل كان للثلاث سنوات الماضية ونيف ثمة انعكاسات سلبية خطيرة خلفها وراءه ذلك الإعصار المدمر للمحافظين الجدد قبل أن ينكفئ، أهمها إشاعة laquo;ثقافةraquo; التناحر والتقاتل المذهبي والعرقي والطائفي في العراق بشكل رئيسي ومحاولة التمدد بها نحو لبنان، وليس أقل أهمية منها ضرب الأمن القومي العربي في الصميم من خلال إخراج العرب كلاعبين يعتد بهم سواء في بلورة مستقبل العراق أو لملمة الوضعين الفلسطيني واللبناني.

وبتقديري فإن أهم ضربة تلقاها الأمن القومي العربي بالمجمل هو تفكيك ثلاثية الممانعة التي كان يُشكلها التعاون laquo;السعودي المصري السوريraquo; أيام الراحل حافظ الأسد، والذي حاولت أطراف خارجية ولا تزال استبدالها بأدوار لأطراف عربية أقل ثقلاً وحجماً وتأثيراً في المعادلة الجيوسياسية العربية تذهب بمعادلة الأمن القومي العربي في منحى آخر أقل ما يقال عنه بأنه غير مضمون!

قد يتساءل البعض هنا بحق عن حجم الدلالات laquo;الخطيرةraquo; ربما التي قد يتركها دخول عامل إقليمي مهم بحجم إيران ليصبح لاعباً أساسياً في معادلة الأمن القومي العربي لاسيما وأنه يحضر وبقوة في أخطر الساحات مثل العراق ولبنان وفلسطين.

وحسب تقديري مرة أخرى فإن الأمر يمكن بل وينبغي أن ينظر إليه من عدة زوايا أهمها ربما بأن اللاعب الإقليمي هذا إنما يدخل هذه المرة كلاعب مستقل يأخذ دوره لأول مرة بشكل اكتسابي وليس ممنوحاً كما كانت الحال أيام لعب شاه إيران دور laquo;الشرطيraquo; الموكل من قبل القوى الأجنبية الكبرى لهذه المهمة.

إن هذه الاستقلالية المشهود لها والاكتسابية الظاهرة يمكن أن توفر فرصة تاريخية ذهبية لمجمل الأمن القومي العربي إذا ما تم التعاطي مع هذا الدور وهذا العامل وهذه القوة الإقليمية الصاعدة بتأمل وعقلانية وبحسابات الربح والخسارة المعروفة في قواعد العمل السياسي والدبلوماسي، خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بأن القوة العظمى الأكبر في العالم تعيش حالياً وباعتراف مجمل الباحثين الأميركيين في فترة laquo;الفراغraquo; الاستراتيجي.

هذا فيما تشهد القواعد الشعبية والقوى المجتمعية الأساسية في بلاد العرب حالة صحوة ونهضة تاريخية قادرة إذا ما قدر لها الدعم والمساندة المطلوبين من قبل أولياء أمر الأمن القومي العربي أن تساهم في تحصين الأمن القومي من خطر آت، أي اختراق جديد تحت أي عنوان أتى، ويشهد لذلك وضع العراق رغم كل مآسيه وجراحاته ويشهد لذلك وضع لبنان رغم كل محنه وابتلاءاته ويشهد لذلك الوضع الفلسطيني رغم حصارات السياسة والأمن والاقتصاد.

إن بيروت وبغداد والقدس باتت العواصم التي تلخص كفاحات الأمة العربية الباحثة عن laquo;الهويةraquo; المهددة أمنياً وسياسياً وفكرياً واقتصادياً وثقافياً وحضارياً، لذلك فان محاولات laquo;عزلraquo; سوريا أو إخراجها من محيط التأثير المباشر في كل من لبنان والعراق وفلسطين فضلاً عن كونه غير ممكن ويجافي حقائق التاريخ والجغرافيا فإنه مضر تماماً بالأمن القومي العربي.

كذلك فان معاداة إيران أو تجاهل كونها كلاعب إقليمي أكثر laquo;استقلاليةraquo; عن البعض الآخر بفضل النظر عن تقييم مضمون هذه الاستقلالية، فضلاً عن كونه غير ممكن وغير مجدٍ فانه يتسبب في إلحاق الضرر بالأمن القومي العربي إضافة إلى وضعه في مهب رياح التجاذبات الدولية غير المستقرة دون سند أو معين وهو الأكثر حاجة من أي وقت مضى لأي دعم مهما كان قليلاً.