فارس خشّان


الأزمة الصاخبة التي يمر بها لبنان حاليا ليست وليدة التطورات الأخيرة،بل هي تكملة لتلك الأزمة الصامتة التي تأسست في ربيع عام 2003 وكان لها قطبان حقيقيان هما :النظام السوري والرئيس رفيق الحريري.

في تلك المرحلة،أدرك الحريري أن الرئيس السوري بشار الأسد قرر إفشال خطته الرامية إلى تحرير روح لبنان من الوصاية السورية على الطريقتين الألمانية واليابانية بعد الحرب العالمية الثانية،بحيث يوفر المصالح الاستراتيجية للحليف السوري في مقابل أن يتيح هذا quot;الحليفquot;المجال أمام لبنان للتعملق الاقتصادي.
اكتشف quot;باني لبنان الحديثquot;ذلك،عندما تلمس الدور السوري الرائد في منع لبنان من تنفيذ تعهداته الإصلاحية المقطوعة للدول المانحة التي اجتمعت في العاصمة الفرنسية في إطار quot;مؤتمر باريس-2quot;.
كان الحريري يتطلع إلى أن يشكل هذا المؤتمر الذي وفّر أموالا للخزينة العامة حتى تتمكن من الانطلاق في خطة لوقف النمو الحاصل في المديونية العامة،quot;طائفا اقتصاديا quot; يكمل خروج لبنان من الحرب،بفضل quot;الطائف السياسيquot;.

إلا أن ظنّ الحريري خاب. بدا بعد انتهاء مؤتمرquot;باريس-2quot;شديد الثقة بمشروعه لأنه،وفق ما أكد للمقربين منه،محمي بتعهد قطعه الأسد للرئيس الفرنسي جاك شيراك،قبيل أن يطلق الدعوات الرسمية ليتوافد قادة الدول إلى بلاده quot;نصرة للبنانquot;.

يومها أدرك الحريري نهائيا أن إنقاذ لبنان والقبول بالنهج السوري خطان متوازنان يستحيل أن يتلاقيا، فقرر تحرير quot;وطن الأرزquot;من هذا النهج الذي كان يرمز إليه ويغطيه رئيس الجمهورية إميل لحود.
وبدأت الأزمة.الحريري يرعى حملة لقطع الطريق أمام رغبة لحود بتمديد ولايته في خريف عام 2004.الأمن السوري يرعى توجيه رسالة نارية إلى الحريري من خلال قصف مقر تلفزيون المستقبل بصاروخين.الحريري يكمل حملة تغيير النهج.الأسد يستدعيه إلى قصر المهاجرين في حضور قادة الأجهزة الأمنية السورية ويبلغه بالممنوعات:ممنوع التهجم على لحود quot;لحود أنا وأنا لحودquot;.ممنوع التصدي لفكرة التمديد الرئاسي quot;فهذا موضوع خاص بي،وأنا أقرر مصير الاستحقاق الرئاسيquot;. ممنوع شن حملة على الفساد الذي تقولون إنه ظهر في بنك المدينة. ممنوع عليك أن تذهب إلى الجامع وتصلي بصورة علنية.

في ذاك الاجتماع الذي أطلق عليه في بيروت اسم quot;اجتماع بروتوكول دمشقquot;،طلب الأسد من الحريري أن يضغط على صحيفة quot;النهارquot;اللبنانية لتوقف حملاتها على لحود وعلى الوجود السوري في لبنان وعلى النظام السوري.اعتذر الحريري عن عدم قدرته على ذلك لأن الإعلام في لبنان حر وهو لا يملك المقدرة على أن يفرض رقابة ذاتية على quot;النهارquot;العريقة في الزمن اللبناني وفي التعبير الحر عن آراء كتابها،رد الأسد بأن فرض على الحريري أن يبيع محفظة أسهمه في quot;النهارquot;فورا بحيث يتسبب ربما بإفلاسها.

أنهى الأسد ذاك اللقاء الشهير جدا بإبلاغ الحريري أن الأجهزة الأمنية السورية التي شاركت في الاجتماع quot;مخوّلة التنفيذquot;.تنفيذ معطوف على قصف quot;تلفزيون المستقبلquot;قبل مدة وجيزة.
بعيد ذاك الاجتماع،حاول الحريري ألا يثير الأمن السوري مع أن أي فصيل لبناني،سواء كان في المؤسسات السياسية أم في المؤسسات الأمنية،لم يتوان عن استفزاز الحريري ليخرج عن تحفظه.

ولكن الحريري لم يغير اقتناعاته ولم يحدث أي تعديل على تصوره الخاص بمستقبل لبنان،بما في ذلك عندما وافق،تحت التهديد بتكسير لبنان،على التصويت لمصلحة تعديل الدستور بما يتيح تمديد ولاية لحود ثلاث سنوات،وبما يؤدي إلى مخالفة القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن في 2 سبتمبر 2004أي قبل يوم واحد على تصويت المجلس النيابي اللبناني على قرار تمديد ولاية لحود في لبنان.

إصرار الحريري على تصوره تجلّى في تحضير تحالفات انتخابية مع القوى المناوئة للوجود السوري في لبنان،بحيث يتمكن وإياها من ضمان الأكثرية في المجلس النيابي وتاليا التحكم بالقرار اللبناني من مدخل ديموقراطي بحت،وهو المدخل الذي لم يكن الحريري العاشق للأمن والسلام والبناء والازدهار،يقبل بأي بديل منه.

وكان الرد السوري على مسيرة الحريري حملة تخوينية عليه غير مسبوقة بعنفها في لبنان،ولم تنته إلا مع اغتياله في عملية إرهابية في 14 فبراير في وسط بيروت.

هذا المناخ السياسي-الأمني هو تحديدا سبب الأزمة الحالية في لبنان،بهدف وحيد لا غير:منع تشكيل المحكمة ذات الطابع الدولي الخاصة بقضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.كيف ذلك ؟
منذ أقل من ثلاثة أشهر أصدرت لجنة التحقيق الدولية تقريرها الخامس في قضية الحريري وأشارت فيه إلى أنها وسعت بحثها في حياة الرئيس الحريري لمعرفة من سبق وهدده ومن يملك الدوافع لاغتياله،بحيث لم تعد مهمتها في هذا السياق محصورة بالأيام الأخيرة التي سبقت اغتياله.تزامن ذلك مع حصر لجنة التحقيق لأعمالها في سوريا التي وجدت نفسها أمام سيل من المطالب المحددة والدقيقة وأمام استجوابات تطال أشخاصا لم يسبق لأحد أن عرف بمهماتهم السرية التي كانوا ينفذونها في لبنان، وأمام لائحة من الأسئلة المحددة التي تبيّن أن لجنة التحقيق معنية جدا باجتماع quot;بروتوكول دمشقquot;.

في هذه اللحظة بالذات تمّ وضع خطة خربطة الأوضاع في لبنان،بحيث يتم شل مؤسسة مجلس الوزراء ومعها تجميد مؤسسة مجلس النواب،بالتزامن مع محاولة إسقاط القرار من يد الأكثرية في لبنان.
هنا تقاطعت المصلحتان السورية والإيرانية.فسوريا تريد منع قيام المحكمة الدولية والدخول في صفقة عربية-دولية هدفها وقف أعمال لجنة التحقيق الدولية.أما إيران التي تمسك استراتيجيا بالقرار السوري فتريد حفظ quot;أداتهاquot;السورية من جهة وتريد مقايضة المجتمع الدولي على لبنان quot;الأسيرquot; إنقاذا لبرنامجها النووي،من جهة أخرى.

ومنذ صدور التقرير السادس للجنة التحقيق في منتصف الشهر الحالي أدرك اللبنانيون الذين أحسنوا قراءة التقرير أن المهمة التي انطلق بها الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى آيلة إلى فشل حتمي،لأن تطابق المصالح بين دمشق وطهران قد تصلّب،فالعقوبات على إيران محور نقاش جدي بين الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي وتورط دمشق في اغتيال الحريري لم يعد محور شبهة سياسية بل أضحى محور يقين جنائي.

وقد ظهر ذلك من تقرير براميرتز،على الرغم من أن الرجل يصر على أن يبقي الملف قريبا من صدره. كيف ذلك ؟
أكد التقرير أن التحقيق سيبحث عن التهديدات السابقة التي تعرض لها الحريري وتاليا عن الدوافع إلى اغتياله،على مدى خمسة عشر شهرا سبقت 14 فبراير 2004 أي أنه عمليا قرر التوقف جنائيا عند اجتماع quot;بروتوكول دمشقquot;.

قرر ذلك،وهو الذي بيّن من دون إعلان أنه وضع يده على المجموعة التي نفذت جريمة الاغتيال،بحيث عثر على ثلاثة من هؤلاء في أرض الجريمة،واحد فجر العبوة الناسفة وقد تحول إلى نثرات بشرية (غير لبناني ولم يعش في لبنان أكثر من شهرين أو ثلاثة وquot;لدينا معلومات عن عرقهquot;) والاثنان الآخران هما معروفان وأحدهما كان في وضعية الاحتماء من الانفجار إلا أنه مات بفعل تساقط الردم عليه.
وأعلن براميرتز أنه حلّ قضايا كانت عالقة،ومنها تأثير تقليص الحراسة الرسمية عن الرئيس الحريري على نجاح تنفيذ الجريمة،والعثور بعد طول عناء على شريط التقطته كاميرا تابعة لفندق في محيط مسرح الجريمة يفترض،وفق بعض المصادر، أن يبين quot;أبطال العملية الكبارquot;،ومعرفة الطبيعة التكوينية للعبوة الناسفة بما يمكنه من الثقة بشاهد مهم في الملف.

وبناء عليه،فإن ما يعانيه لبنان حاليا لا يمكن فهمه على أساس صراع قوى محلية،بل هو من المنظار السوري صراع نظام يرفض أن يتغير مما يدفعه إلى فعل كل شيء بلبنان من أجل حماية رجال مخابراته من العدالة الفاعلة والقادرة،وهو من المنظار الإيراني أسر لبنان للمقايضة عليه،ومن يشكك فعليه مراجعة آخر كلام لوزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي لقناة quot;العربيةquot;.