رضوان السيد


قال الرئيس الأميركي بوش في أحد تصريحاته شبه اليومية: ستبقى الولايات المتحدة طويلاً في الشرق الأوسط، وعلى إيران وسوريا فهم معنى ذلك. وليس في هذا التصريح شيء جديدٌ، لا في قسمه الأول، ولا في قسمه الثاني. فالولايات المتحدة موجودةٌ بسياساتها وعسكرها في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية. أمّا تدخُّلُها السياسيُّ فيكاد يحدُثُ كلَّ يومٍ منذ عدة عقود، وكذلك تدخُّلاتها العسكرية وقواعدها. بيد أنّ الجديد في الوجود الأميركي بالمنطقة يتمثّل في الغزو العسكري لكلٍ من أفغانستان والعراق بعد نهاية الحرب الباردة. وإذا كان هناك مبرر للتدخل العسكري في أفغانستان بسبب وجود quot;القاعدةquot; هناك؛ فما كان هناك مبررٌ من أيّ نوعٍ للتدخل في العراق وغزوه وتخريبه. أما القسمُ الثاني من التصريح فهو مطالبةٌ من جانب الرئيس بوش لكلٍ من إيران وسوريا بالتلاؤم مع وقائع الوجود الأميركي بالشرق الأوسط ذاته. وهذا الأمر حاصلٌ بالفعل ومن جانب الدولتين. فقد لعبت سوريا -وبموافقة الولايات المتحدة- عدة أدوارٍ في لبنان وفي فلسطين.. بل وفي العراق. أمّا إيران فقد نسّقت مع الولايات المتحدة أيام بوش الابن في أفغانستان كما في العراق خلال السنوات الخمس الماضية.

الجديدُ في الأمر تغيُّرُ السياسات الأميركية بعد ظهور الفشل في العراق. وما ظهر هذا التغيير في تقرير quot;بيكر-هاملتونquot; فحسْب؛ بل ظهر قبل ذلك وعلى مشارف ولاية بوش الثانية. وقد تمثّل التغيير في أمرين: التخلّي التدريجي عن إدارة quot;المحافظين الجددquot; للسياسة الخارجية الأميركية، والتخلّي الأميركي التدريجي أيضاً عن الأَوحدية في إدارة الصراع، والاتجاه للعودة للأطلسي (أوروبا)، ولمشاركة روسيا الاتحادية. وهذان التغيران هما اللذان أقلقا إيران وسوريا معاً. إيران أرادت اعترافاً فعلياً بدورها ومصالحها، وسوريا أرادت أماناً أكبر لنظامها. وقد كانت وسيلة الضغط من جانب الدولتين لإرغام الولايات المتحدة على ذلك: نشر الاضطراب من حول إسرائيل في فلسطين ولبنان، والتوقُّف عن التعاوُن في العراق.

بيد أنّ الفشل الأميركيَّ بالعراق، وما آلت إليه الأوضاعُ فيه، كانت له تداعياتُهُ وتوجُّساته الأُخرى، والتي ما اقتصرت على إيران وسوريا. إذ اتّجهت دول الخليج العربية وعلى رأسها المملكةُ العربيةُ السعودية، ثم اتجه الأردن ُواتّجهت مصر، في حركةٍ متزايدةٍ ومتصاعدةٍ لحماية الذات والمصالح من الاضطراب العراقي، ومن تداعيات التجاذُب الإيراني والسوري مع الولايات المتحدة. وهذه الدول التي تتحرك الآن، تُدركُ بعُمقٍ ما حدث خلال السنوات القليلة الماضية. إذ بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، وبدء الحرب الأميركية على الإرهاب الإسلامي، ما جرى الهجوم على أفغانستان والعراق فقط؛ بل وأُطلقت يد شارون في فلسطين، وعُزلت دول المشرق العربي تارةً بزعم أنها محاضنُ للإرهاب، وطوراً لإرادة تحويلها باتجاه الديمقراطية!

تواجهُ الولايات المتحدة إذن والآن عدة مشكلات، تعتقد الإدارةُ البوشيّةُ أنّ سببَها الفشلُ في العراق. ولذلك فهي تطلُبُ تعاوُناً من الجميع للخروج من المأزق. بيد أنّ الأطرافَ الأُخرى في المنطقة وخارجَها تقرأُ الأمور بطرائق مختلفة، وتتصرف بما يحفظُ استقرارَها ومصالحها. فعربُ المشرق والخليج يرون أولويةً لحلّ المشكلة الفلسطينية، وتثبيت الاستقرار في لبنان، واستحداث توازُن سياسي في عراق ما بعد الغزو، بينما يحاول السوريون حماية نظامهم من آثار المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس الحريري، كما يحاولون استعادة أدوارٍ ووظائف انتهت في الحقيقة بسقوط نظام صدّام، وخروجهم من لبنان، ودخول القضية الفلسطينية في سياقاتٍ أُخرى. أما الإيرانيون فبالإضافة إلى التحدي النووي، يريدون تثبيت النفوذ في العراق، والاعتراف بذلك النفوذ أيضاً في منطقة غرب الفرات وصولاً لمياه البحر المتوسط الدافئة. وهكذا فهناك ثلاثة أطرافٍ رئيسيةٍ لا تتقاطعُ مصالحُها وحسْب، بل تتشابكُ أيضاً. إذ لو وضعنا أميركا وإسرائيل باعتبارهما طرفاً واحداً، لوجدْنا اشتباكاً بينهما من جهة، وبين إيران وسوريا من جهةٍ أُخرى في عدة مواطن أهمُّها الوضع في العراق، وامتداد النفوذ الإيراني باتجاه حدود إسرائيل على المتوسط. ولا تتلاقى مصالح الطرف العربي (دول الخليج ومصر والأردنّ) مع السياسات الأميركية أو الإيرانية/ السورية في أيّ نقطة. إذ هي تطلب سيراً في فلسطين باتّجاه الدولة، وسيراً في العراق باتجاه الدولة أيضاً، واستقراراً في لبنان باتجاه الدولة ثالثاً. وهذا فضلاً عن قلقها بشأن أمن الخليج إذا احتدم الصراع بين الولايات المتحدة وإيران. وإذا افترضْنا تلاقياً مع الولايات المتحدة (وأوروبا) بشأن أمن لبنان واستقراره؛ فليس هناك حتى الآن ما يمكن قولُهُ بشأن سياسات أميركا الجديدة في العراق وفلسطين.

وما دُمْنا بصدد تحديد الأطراف quot;المتجاذبةquot; في الشرق الأوسط وعليه؛ فإنّ استكمال المشهد يقتضي ذكر الأطراف quot;الحاضرةquot;. والطرفان الآخران الحاضران هما أوروبا (الأطلسية، وبما يتجاوز الأطلسي)، وروسيا الاتحادية. قلنا في السابق إنّ فشل السياسات الأميركية في العراق وأفغانستان وأماكن أخرى، دفع الولايات المتحدة للعودة للأطلسي، والاتجاه للاعتراف بروسيا شريكاً عالمياً، كما كان عليه الأمر في الحرب الباردة. فخلال السنوات الخمس السالفة عطّلت الولايات المتحدة أوروبا الأطلسية، وأوروبا الكاثوليكية. عطّلت أوروبا الأطلسية بالتدخل العسكري المباشر باعتبار أنّ كلَّ المسائل عندها أُلحقت بأمنها الوطني الذي أرادت أن تحميه بنفسِها وبحسب تقديرها، ولذلك فقد ظهر الاختلافُ بينها وبين أوروبا (باستثناء بريطانيا البروتستانتية) وبينها وبين تركيا (الأطلسية) عشية غزو العراق. بيد أنّ أوروبا ما اختلفت مع الولايات المتحدة بشأن العراق وحسْب؛ بل اختلفت معها بشأن الموقف من المؤسسات الدولية، وبشأن فلسطين. فالبابوية الرومانية لا تريد قدساً يهودية، ولا تريد تهديداً لمصائر المسيحية في الشرق الأوسط. ويوحنا بولس الثاني -البابا الراحل- الذي تحالف مع الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي في الثمانينيات من القرن الماضي، اختلف معها في التسعينيات بشأن سياساتها العالمية (سياسات الأوحدية القطبية)، واختلف معها في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين بشأن سياساتها الشرق أوسطية ومن بينها فلسطين والعراق. وقد ناضل الأوروبيون طويلاً للوصول إلى آلية اللجنة الرباعية وquot;خريطة الطريقquot;، ثم عطّلت الولايات المتحدة كل شيء وضربت العراق. ومن ضمن سياسات quot;المحافظين الجددquot; جاء تعطيل الدور التركي والمصالح التركية، والتحالف مع الأكراد، والتشارك مع إيران في العراق وغير العراق. ولذلك كان من ضمن نتائج الفشل الأميركي حدوث المتغيرات خلال عام 2006، والتي كان من ضمنها في منطقتنا عودة أوروبا الأطلسية وأوروبا الكاثوليكية إلى التحرك بشأن فلسطين وبشأن الشرق الأوسط بعامة. ومن هذا المنطلق تقدمت أوروبا لحماية لبنان خلال حرب تموز وبعدها، كما تقدمت لتفعيل اللجنة الرباعية من جديد بشأن فلسطين. ومن ضمن تلك المتغيرات أيضاً تحرك تركيا لحماية مصالحها بدون اعتراضٍ من واشنطن، وتحركها للتواصل الأوثق مع العرب الخارجين من الحصار الأميركي.

ويخطُبُ الجميعُ الآن وُدَّ الاتحاد الروسي. فعندما كانت الولايات المتحدة تستأثر بالأوحدية القطبية، وتعتبر أنّ كل شيء انتهى بسقوط الاتحاد السوفييتي، وتتمدد إلى شرق أوروبا وآسيا الوسطى، ما كانت روسيا جالسةً مكتوفة اليدين. إذ طوَّرت علاقاتها بالصين والهند باتجاه إيجابي، وشكّلت مظلةً استراتيجيةً لإيران وسوريا في المنطقة. وعلى وقع الفشل الأميركي في كلّ مكان، بدأت روسيا تحصُدُ الأرباح؛ بحيث أرغمت الولايات المتحدة على الاتجاه لمشاركتها من جديد. دخلت روسيا أخيراً في منظمة التجارة العالمية، وشاركت بقوةٍ في التجاذُب بشأن ملف إيران النووي، وتحركت دبلوماسيتها في الشرق الأوسط؛ ومن ضمن ذلك التواصل مع quot;حماسquot;، وإرسال قوات إلى لبنان للمشاركة في إعادة إعماره بعد حرب تموز. وصارت الشريك الرئيسيَّ للولايات المتحدة، والوسيط الرئيسيَّ أو القاسم المشترك بين أميركا وخصومها.

ما الذي يحدث أو سيحدث في الشهور المقبلة؟ كلُّ الأطراف تتحدث عن العودة إلى طاولة الحوار. العرب يطرحون مبادرتهم للسلام الشامل من قمة بيروت عام 2002. والولايات المتحدة تريد مخرجاً من العراق يقتضي حواراً عراقياً داخلياً، وحواراً مع دول الجوار العراقي. والروس والأتراك والأوروبيون يرون أنّ الأوانَ آنَ للقيام بعملٍ تفاوضيٍ بنّاء في فلسطين. لكنّ الأطراف المتصارعة (وليس الحاضرة) غير مرتاحة لمواقعها الحالية، أي أنها تسعى للمزيد من الضغط والاضطراب قبل الجلوس إلى الطاولة وحصد النتائج. ولذلك أرى أنّ الشهور القادمة، وفي الوقت الذي تتحدد فيه السياسات الأميركية في العراق وفلسطين أكثر، ستشهد المزيد من الاضطراب الأمني والسياسي داخل العراق وداخل فلسطين.. وربما داخل لبنان. ولا حول ولا قوة إلا بالله.