الثلاثاء: 2006.04.04
د. محمد عابد الجابري
عندما ننتقل من مسألة النبوة كما ناقشها أهل السُّنة، معتزلة وأشاعرة وسلفيين، إلى مسألة الولاية كما طرحها الشيعة والمتصوفة، فنحن ننتقل من نظام معرفي بياني يتعامل مع ظاهر النص الديني، قرآناً وحديثاً، إلى نظام معرفي عرفاني يتعامل مع النص القرآني على أنه ظاهر وباطن، والظاهر فيه هو مجرد مطية للباطن. الظاهر لعموم الناس وأما الباطن فلخاصتهم. والمقصود بالخاصة هنا هم الأئمة عند الشيعة والأولياء عند المتصوفة ويجمعهم مصطلح quot;الولايةquot;.
والولاية رئاسة، والرئاسة قد تكون دينية وقد تكون سياسية. الولاية الشيعية رئاسة دينية وسياسية معاً، أما الولاية الصوفية فدينية فقط. وقد تتحول إلى رئاسة سياسية أيضاً عندما ينخرط أصحابها في سلك الحكام فيكونون للحاكم quot;جنودا في الليلquot;، أو يثورون ضده كما حصل مع بعض الطرق الصوفية. وما يهمنا هنا هو موقع الولاية من النبوة عند كل من الشيعة والمتصوفة، وموقفهم من مسألة العصمة.
وعندما نتحدث هنا عن الشيعة فنحن نعني الشيعة الإمامية الإثنا عشرية. فهي تقول باثني عشر إماماً هم: علي بن أبي طالب وابناه الحسن، والحسين، وابن هذا الأخير علي زين العابدين، وابنه محمد (الباقر)، وابن هذا الأخير جعفر (الصادق). وابنه موسى (الكاظم) -ومنه تفرع المذهب الموسوي الاثنى عشري- وابنه علي (الرضي)، وابنه محمد، وابن هذا الأخير علي (الهادي)، وابنه الحسن العسكري، وابن هذا الأخير محمد بن الحسن (الإمام الغائب ويلقبونه بالحجة القائم المهدي، ولد سنة 255 هـ وغاب الغيبة الكبرى سنة 329 هجرية وينتظرون رجعته إلى اليوم). أما الشيعة الإسماعيلية ndash;أو الفاطميون- الذين نقلوا الإمامة من الإمام السادس جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل وذريته فقد ذهبوا بعيدا في باطنيتهم فغرفوا من الفلسفة الهرميسية، ورفعوا أئمتهم أحيانا إلى مرتبة الألوهية.
وبالعكس من هؤلاء وأولئك: الشيعة الزيدية نسبة إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي اعترف بإمامة أبي بكر وعمر وعثمان فرفضه باقي الشيعة فأطلق عليهم خصومهم اسم الرافضة. والزيدية لا تختلف عقائدها كثيرا عن مذهب المعتزلة. وهم كالإسماعيلية اليوم، أقلية بالنسبة للإمامية الإثنا عشرية (شيعة إيران والعراق، ولبنان).
الإثنا عشرية يقولون بالعصمة للأنبياء ولأئمتهم. والولاية في تصورهم quot;سلطة إلهيةquot; خص الله بها الأنبياء والأولياء سواء بسواء. ذلك أن كل الفرق بين النبي والولي، حسب ما يروونه عن جعفر الصادق، أكبر الأئمة عندهم، هو أن النبي يحل له من النساء أكثر من أربع بينما لا يحل ذلك للولي (الإمام). أما ما عدا هذا، فالولي ndash;أو الإمام- هو في منزلة النبي، يُبلِّغ عنه ويتحدث باسمه، وتعتبر تعاليمه من تعاليم النبي أو هي نفسها. ومن هنا يقرر علماء الشيعة أن الأحكام الشرعية الإلهية لا يصح أخذها إلا من الأئمة. أما أخذ الأحكام الشرعية من الرواة والمجتهدين، كما يفعل أهل السُّنة، فهو quot;ابتعاد عن محجة الصواب في الدينquot;. ومن هنا كانت الولاية عندهم ركناً من أركان الإسلام، بل أول ركن فيه، والباقي تَبَع له.
على أنه إذا كان الشيعة يقرنون أو يساوون بين الولاية والنبوة فهم يميزون بين النبي والرسول. فالرسول هو الذي يوحى إليه ويكلف بتبليغ الرسالة، أما النبي والإمام فيوحى إليهما ولكن دون أن يكلفا بتبليغ رسالة جديدة، وإنما يشرحان رسالة الرسول الذي يندرجان في دوره. وهذه المرتبة الثانية هي مضمون quot;الولايةquot; عند الشيعة، إنها نبوة الإمام، وهي مستمرة ولم تختم، ولن تختم إلا بعودة الإمام الغائب، الثاني عشر. وأما ما ختم بمجيء quot;خاتم النبيين والمرسلينquot; محمد عليه الصلاة والسلام فهو الرسالة، وبالتحديد quot;نبوة التشريعquot; التي تتضمن بيان الفروض والأحكام، أما النبوة بمعنى تلقي الكلام الإلهي فهي مستمرة في أشخاص الأئمة.
تلك نظرة موجزة عن الولاية عند الشيعة في علاقتها بالنبوة، فلننظر الآن في الولاية عند المتصوفة، مقتصرين على الذين يصنفون أنفسهم داخل quot;السُّنةquot;، أما الذين اتجهوا بتصوفهم اتجاها quot;فلسفياquot; فسنتحدث عنهم لاحقاً.
لقد كان من الطبيعي أن يبدأ المتصوفة السنيون كلامهم على quot;الولايةquot; بالعمل على تأسيسها شرعا، وذلك بالتماس سند لها من القرآن والسنة. فمن القرآن يذكرون قوله تعالى: quot;ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنونquot; (يونس 62). وإذا كانت هذه الآية لا تحمل بالضرورة كل المضامين التي حملها الصوفية لمفهوم quot;الولايةquot; عندهم، فإن الحديث التالي الذي ترويه كتب الحديث المشهورة، يكاد ينطق بما يريدون. يقول الحديث: quot;إن من عباد الله عباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء. قيل: من هم يا رسول الله؟ وصِفهم لنا لعلنا نحبهم. قال عليه السلام: قوم تحابوا بروح الله من غير أموال ولا اكتساب، وجوهرهم نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناسquot;. وإذا كان ليس من الضروري الشك في صحة هذا الحديث على مستوى السند، فإن المعنى الذي يضمِّنه له المتصوفة ليس من الضروري قبوله. فالهجويري مثلا ndash;وهو متصوف سني ومؤرخ للتصوف- يشرحه بقوله: quot;والمراد من هذا هو أن تعرف أن لله عز وجل أولياء قد خصهم بمحبته وولايته، وهم ولاة ملكه الذين اصطفاهم وجعلهم آية إظهار فعله، وخصهم بأنواع الكرامات وطهرهم من آفات الطبع، وخلصهم من متابعة النفس، فلا همَّ لهم سواه، ولا أنس لهم إلا معهquot;. وواضح أن الواحد من الناس، ممن يتقنون العربية وعلوم القرآن وعلو الحديث، لا يمكن أن يستنبط، من نص ذلك الحديث، هذه المعاني التي ذكرها الهجويري دون أن تكون لديه معرفة مسبقة بها.
يجمع المتصوفة السنيون على ترتيب الأولياء بعد الأنبياء. ولكن تمييزهم بين النبي والرسول يعود بهم إلى نوع من المساواة بين الولاية والنبوة، على الرغم من حرصهم على التأكيد بأن مرتبة الأنبياء أشرف وأعلى من مرتبة الأولياء، الشيء الذي يعني أن الفرق بين الأنبياء والأولياء فرق في الدرجة فحسب، وليس فرقا في النوع. فبخصوص الرؤية مثلا ndash;رؤية الله- يقولون: إن رؤية الله عند الأنبياء تكون منذ البداية بينما لا تكون عند الأولياء إلا عند نهاية طريقهم. على أن ادعاء رؤية الله للأولياء في آخر الطريق، أي عند بلوغهم أعلى المراتب عندهم، يفتح الباب أمام القول باكتساب النبوة، ويصبح الفرق حينئذ بين النبي والولي هو أن الأول نبي بالفطرة والثاني نبي بالاكتساب. وتلك نتيجة قبلها بعضهم صراحة، وسكت عنها آخرون، بينما رفضها فريق منهم. والشيء نفسه يقولونه عن المعراج: quot;معراج الأنبياء يكون من وجه الإظهار بالشخص والجسد، ومعراج الأولياء يكون من وجه الهمة والأسرار(hellip;) ويكون ذلك بأن يجعل الولي مغلوبا في حاله حتى يسكر، وعندئذ يغيب عنه سره في الدرجات ويزين بقرب الحق (=الله)quot;.
أما العصمة فبعضهم يتجنب لفظها ويقول بـquot;الحفظquot;، بمعنى أن الله يحفظ الأولياء من ارتكاب الكبائر والصغائر، ومعلوم أنه ليس للعصمة معنى آخر غير هذا، ولذلك نجد بعضهم ينطق بها دون تردد. يقول القشيري: quot;ولا يكون ولياً إلا إذا كان موفقاً لجميع ما يلزم من الطاعات معصوما بكل وجه من الزلاتquot;.
وكما يختص الأنبياء بالمعجزات يختص الأولياء بالكرامات. ويستند المتصوفة quot;السنيونquot; في إثباتها للأولياء إلى مبدأ التجويز (تجويز خرق العادة وبالتالي إنكار السببية)، وهو المبدأ الذي كرسه الغزالي في الفكر السني لإثبات المعجزة. يقول القشيري: quot;وظهور الكرامات على الأولياء جائز. والدليل على جوازه، أنه أمر موهومٌ حدوثُه في العقل، لا يؤدي حصوله إلى رفع أصل من الأصول (الدينية)، فواجب وصفه سبحانه بالقدرة على إيجاده. وإذا وجب كونه مقدوراً لله سبحانه فلا شيء يمنع جواز حصولهquot;.
وقد قامت مناقشات كلامية حول هذه المسألة، خصوصا حول ما إذا كانت كرامة الولي quot;ناقضة للعادةquot;، كمعجزة النبي أم لا؟ يدافع الهجويري بحرارة عن كون كرامة الولي quot;ناقضة للعادةquot;، كالمعجزة تماما، دليله في ذلك أنه ما دام الولي لا يدعي النبوة، فلا شيء يمنع من القول إن كرامته ناقضة للعادة مثلها مثل المعجزة.














التعليقات