السبت: 2006.05.27

عبد الباري عطوان


الاراضي الفلسطينية المحتلة تقف حاليا علي فوهة بركان كبير، بدأ ينفث دخانه، وبات الانفجار وشيكا. والمسألة باتت مسألة وقت وتوقيت، وانتظار الحادثة التي ستخلط الاوراق، وتشعل الفتيل.

حركة حماس تحشد قواتها، وكذلك حركة فتح او قطاع عريض منها، حيث بات الانتماء الي القبيلة التنظيمية يتقدم علي الانتماء الي الوطــــن، وجري اختـــصار قضية فلسطين في ازمة الرواتــــب، وليس في ازمة الاحتلال والاعتداءات الاسرائيلية المتكررة.

الحوار الوطني بين الفصائل الذي بدأ امس الاول تحت مظلة السيد محمود عباس رئيس السلطة قد يؤجل الانفجار لبضعة ايام او اسابيع، ولكنه لن يمنعه، لانه ليس حوارا جديا، ويكشف عن محاولة لتحديد نتائجه قبل ان يبدأ. فالحديث امام عدسات التلفزة التي نقـــلت وقائعه علي الهواء مباشرة شيء، وما يجري علي الارض شيء آخر. فحقن الدماء لا يتم بالتوســــل اللفظــي، والبلاغة الكلامية، وانما من خلال مناقشة القضايا سبب الاحتقان بكل صراحة وجرأة، وهذا ما لم نلمسه، بل لمسنا عكسه تماما.

السيد محمود عباس رئيس السلطة وضع المتحاورين في كلمته الافتتاحية امام خيار واحد فقط، فإما اعتماد وثيقة الاسري بخصوص الوفاق بكل بنودها، وإما اللجوء الي استفتاء الشارع الفلسطيني حولها في غضون اربعين يوما.
انه تهديد وليس حوارا، فمن يريد الحوار لا يفرض وجهة نظره مسبقا، ويطالب الآخرين بالقبول بها، ويحدد نتيجة الحوار قبل ان يبدأ.
وثيقة الاسري ممتازة ولا غبار علي اي من بنودها، ومقدموها اناس شرفاء ضحوا بحريتهم، وكان من الممكن ان يضحوا بارواحهم من اجل قضية بلادهم، ولكن السؤال هو عما اذا كان السيد عباس سيلتزم بتطبيق كل بنودها دون اي نقصان.

تجاربنا السابقة مع السيد عباس وفريق اوسلو الذي قاده، وخرج عن كل الثوابت الفلسطينية، توحي بعكس ذلك تماما. فالرجل يريد استخدام هذه الوثيقة للحصول علي تفويض مباشر من الشارع الفلسطيني للالتفاف علي المجلس التشريعي، والانطلاق في مفاوضات جديدة وفق الشروط الامريكية ـ الاسرائيلية، وهنا مكمن الخطر.

مفاوضو اوسلو استخدموا شرعية تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني لتوقيع اتفاقات تتعارض كليا مع قرارات المجلس الوطني الفلسطيني والأمم المتحدة، والميثاق الوطني، وماذا يمنع ان يفعلوا الشيء نفسه اذا حصلوا علي تفويض من الشعب الفلسطيني للتفاوض علي وثيقة الأسري، وهي ليس لها اي صفة تشريعية، وغير صادرة عن مؤسسة فلسطينية منتخبة، وانما عن توافق مجموعة من الشرفاء خلف القضبان؟

القيادات تنزل الي الشارع عادة لاستفتائه عندما تكون هناك حاجة ملحة، وحول قضايا مصيرية، وبعد اقرار المؤسسات التشريعية والتنفيذية لها. فما هي هذه القضية المصيرية التي سيطرحها الســيد عباس علي الشعب الفلسطيني لاستفتاء رأيه؟

عندما ينتزع السيد عباس موافقة اسرائيلية واضحة وغير منقوصة بوثيقة الأسري، او عندما يتوصل الي تسوية تضمن الانسحاب الاسرائيلي الكامل وعودة اللاجئين، واستعادة القدس وازالة كل المستوطنات، فانه لن يكون بحاجة الي مثل هذا الاستفتاء، لان الشعب الفلسطيني سيحمله علي الاعناق كبطل قومي. ولكن السيد عباس لم يحصل، وحتي هذه اللحظة، علي اعتراف اسرائيلي به كشريك في السلام.

ولعله من المفيد التذكير بان الاستفتاءات تجري عادة في ظل ظروف طبيعية، اي عندما تكون فيها الشعوب متحررة كليا من اي ضغوط، حتي يأتي قرارها منطقيا. فقد جرت العادة ان يأخذ القضاة في المحاكم الرومانية فترة راحة، للذهاب الي دورة المياه، قبل اصدار اي احكام علي اساس القاعدة الشرعية التي تقول لا رأي لحاقن .

الشعب الفلسطيني كله محتقن، ومجوع، فكيف سيأتي حكمه في هذا الاستفتاء صائبا وهو لا يجد رغيف الخبز، واطفاله لا يجدون علبة الحليب، ومرضاه لا يجدون الدواء، والفلتان الامني علي اشده، والصدام بين رأسي السلطة في ذروته، وموظفوه بمن فيهم قوات امنه، لم يحصلوا علي مرتباتهم منذ اربعة اشهر؟

الفلسطينيون سيصوتون بأمعائهم لا بعقولهم في اي استفتاء يطرحه السيد عباس عليهم، وربما هذا هو ما يريده ويسعي اليه، تماما مثلما جري استغلال جوع كوادر منظمة التحرير بعد تجفيف منابع المنظمة المالية من قبل دول الخليج بعد اجتياح الكويت لفتح ثغرة اوسلو، والتنازل عن معظم الثوابت الفلسطينية، وتقديم اعتراف مجاني لكسر الحصار العربي عن الدولة العبرية.

انه استفتاء خطير، علاوة علي كونه غير قانوني. خطير لانه يأتي في ظل مخطط امريكي ـ اسرائيلي لتركيع الشعب الفلسطيني، عقابا له علي خياره الديمقراطي، وغير قانوني لانه يطالب ابناء الداخل الذين يمثلون اقل من ثلث الشعب الفلسطيني، البت في قضايا مصيرية تتعلق بالحلول النهائية لقضيتهم، وفي ظرف استثنائي.

ابناء الشعب الفلسطيني في الخارج الذين يشكلون الاغلبية الساحقة، غير مدعوين للمشاركة في هذا الاستفتاء. كما ان منظمة التحرير الفلسطينية في صورتها الحالية لم تعد تمثلهم، اللهم الا اذا تم اصلاحها، واعادة بناء مؤسساتها، من مجلس وطني ومركزي ولجنة تنفيذية، علي اسس ديمقراطية، وفي اطار شفافية كاملة، تعكس طبيعة القوي الفلسطينية علي الارض، في الوطن والمنفي.

الفلسطينيون وهم يقفون علي ابواب الحرب الاهلية من ناحية، والمجازر الاسرائيلية من ناحية اخري، ليسوا بحاجة الي مبادرات غير مدروسة تؤدي الي توسيع الانقسامات وتأجيج الخلافات، وصب الزيت علي النار.

الوحدة الوطنية مطلوبة ولكن علي ارضية المقاومة، والتصدي كرجل واحد لحال الحصار الراهن، وانهاء معاناة الفلسطينيين، لكن ما نراه حاليا هو وجود رهان علي امريكا ورئيسها الذي يقتل اطفالنا واهلنا في العراق ويمزق هذا البلد العزيز، ورهان آخر علي الصمود الفلسطيني وعدم التفريط بالثوابت.

بقي ان نقول، وبكل صراحة ووضوح، بأن علي حركة حماس ان تحسم حالة الازدواجية التي تعيشها حاليا، وان تقرر دون تردد، فإما ان تستعيد مكانتها كحركة مقاومة وتعود الي خندقها الحقيقي الذي جعل الجماهير تلتف حولها، وتختارها في انتخابات حرة كبديل للفساد والاستسلام، او ان تختار التحول الي حركة سياسية تتطلع الي الحكم وتولي شؤون السلطة، وعليها في الحالة الثانية ان تقبل كل التبعات المترتبة علي ذلك من قبول بمبادرة السلام العربية التي تعني اعترافا صريحا باسرائيل وتدعو للتطبيع معها، اما ان تحاول حمل هاتين البطيختين الضخمتين في الوقت نفسه فهذا امر صعب للغاية وان تم فلفترة محدودة.

الخطر الاكبر الذي يهدد الفلسطينيين هو الحرب الاهلية الدموية، ومنع هذه الحرب يمكن ان يتحقق في حالة واحدة فقط، وهو ان يتداعي شرفاء فتح و حماس من القيادات الميدانية الي اجتماع للتوافق علي ميثاق شرف بعدم الاحتكام للدم.

فعندما تسمح الحكومة الاسرائيلية بمرور اسلحة الي الحرس الرئاسي، علينا ان نتوقع الاسوأ، لان اسرائيل لا يمكن ان تسمح بمرور سلاح يمكن ان يستخدم ضدها.

حركة فتح حركة وطنية عريقة، حملت راية الجهاد الفلسطيني لاكثر من اربعين عاما، وقدمت آلاف الشهداء. ولذلك فان كل دعوات التحريض ضدها، وتكفير عناصرها، في بعض المساجد، يتناقض كليا مع ثوابت العمل الوطني. فهذه الحركة انجبت ابو جهاد وابو اياد وكمال ناصر وكمال عدوان وقبل هؤلاء جميعا الرئيس ياسر عرفات. الفاسدون قلة القلة، وهؤلاء اساءوا للحركة وللشعب الفلسطيني، ومن الخطأ محاسبة حركة ولدت كتائب شهداء الاقصي من رحمها بجريرة هذه القلة.