الأربعاء: 2006.07.05


د. عصام نعمان

وجهت المقاومة الفلسطينية إنذاراً، هو الأول من نوعه، بـِ طيّ الملف إذا لم تفرج إسرائيل حتي صباح أمس عن الأسري من النساء والأطفال.
مهلة الإنذار انقضت، فماذا يعني طي الملف ؟ هل يعني قتل الجندي الإسرائيلي الأسير؟ كلا بالطبع. الأسير، بحسب إتفاقات جنيف، لا يُقتل والمقاومة حريصة علي تطبيق تلك الإتفاقات رغم إدمان إسرائيل علي انتهاكها.
طي الملف يعني سياسيا ان حكومة حماس ومنظمات المقاومة التي تحتجز الجندي الإسرائيلي الأسير تعتبر أن لا شريكَ إسرائيليا صالحا لتتفاوض معه علي تبادل الأسري.
إسرائيـل، منذ وصول ارييل شارون إلي رئاسة الحكومة العام 2002، تعتبر ان لا شريكَ فلسطينيا صالحا لتتفاوض معه حول الإنسحاب من الضفة الغربية وغزة. لذلك حاصرت ياسر عرفات في مقره حتي الموت. وهي تحاصر رئيس حكومة حماس إسماعيل هنية حتي... الإغتيال، إذا استطاعت إليه سبيلاً.
ثمة لون من ألوان التوازن السياسي السلبي تحقق اليوم بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وهو تطور يأتي في صالح حماس التي نجحت أخيراً في إقناع جميع اطراف المشهد الفلسطيني بعدم التفاوض مع إسرائيل وفق شروط هذه الأخيرة بل الإصرار علي مطلب تبادل الأسري كأساس لمفاوضة مجزية.

إسرائيل، ومن ورائها أمريكا، ترفض التطور الطارئ علي توازن القوي السياسي وتسعي إلي تجاوزه بوسائل متعددة، أبرزها ثلاث:
الأولي، تكليف مصر وبالتالي السعودية، عبر الولايات المتحدة، مهمة الضغط علي الفلسطينيين، رئاسةً وحكومةً ومقاومةً لتسليم الجندي الأسير من دون شروط، مع وعد بإطلاق بعض الموقوفين الفلسطينيين كرمي لعينيّ محمود عباس، وليس إسماعيل هنية، لقاء جهوده المضنية لتسوية المشكلة! توسيط مصر وبالتالي السعودية لم ينجح، وليس ما يشير إلي انه سينجح.
الثانية، تصعيد الضغط علي الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية من اجل تسليم الجندي الأسير عبر القصف والتدمير وإحتجاز الوزراء والنواب ومحاكمتهم، وصولا إلي إغتيال بعض قيادات المقاومة، إذا استطاعت إلي ذلك سبيلاً.
الثالثة، تحميل سورية رئيسا وحكومة مسؤولية إحتجاز الجندي الأسير وتهديدها بتصفية خالد مشعل، المتهم بأنه الآمر بالعملية النوعية الأخيرة، وغيره من القياديين في حركة حماس الذين يتخذون من سورية مقراً لهم. هذا التهديد يستبطن، بطبيعة الحال، إنذاراً بضرب سورية نفسها بما هي حاضنة لـ حماس ، أي لما تسميه إسرائيل وأمريكـــا إرهابا . في هذا السياق، قامت وزيرة خارجية إسرائيل تسيبي ليفني بنقل الإنذار إلي دمشق عبر زيارة مستعجلة لموسكو قابلت خلالها الرئيس فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف الذي دعا لضمان الإفراج عن الجندي المخطوف . زيارة لفني وتصريحاتها في موسكو تدخل في باب التهويل علي سورية من اجل حملها علي تخويف مشعل ورفاقه وبالتالي الضغـــــط علي حكومة حماس والقادة الفلسطينيــــين عموما.
الواقع ان أسلوب التهويل والتخويف لا يستهدف، في هذه الآونة، سورية فحسب بل يتناول إيران أيضا. ذلك ان طهران التي تتعرض لضغوط أمريكية وأوروبية شديدة للإقلاع عن تخصيب اليورانيوم والقبول بشروط الغرب الأطلسي في شأن برنامجها النووي، ستجد نفسها محرجة جـداً إذا ما قامت إسرائيل بمهاجمة سورية من دون ان يكون في وسع إيران، المشغولة بمواجهة الضغوط الغربية، مدّ يد العون العسكري المباشر إليها.
هذا، علي الأقل، ما ترمي إليه حسابات إسرائيل وأمريكا، فهل تصحّ؟
إيران ستكون محرجة إذا كان هدفها الأقصي تحسين شروط التسوية مع أمريكا وأوروبا مع التسليم بوقف برنامج تخصيب اليورانيوم. ذلك ان إستفراد المقاومة في فلسطين (وربما في لبنان) والضغط علي سورية وربما إيذاءها في هذه الآونة من شأنه إضعاف مركز طهران التفاوضي إزاء الغرب.
لكن، ماذا لو كان هدف إيران أمراً آخر أكثر جذرية؟ ماذا لو كان هدفها التمسك ببرنامج تخصيب اليورانيوم حتي لو أدي الأمر إلي تصعيد المواجهة مع الولايات المتحدة؟
لعل إيران ترمي إلي التمسك ببرنامجها النووي لتقديرها بأن الولايـات المتحدة ستكون عاجزة عن اللجوء إلي الحرب بسبب تكلفتها العالية، وانه سيكون في وسع إيران، حتي لو لجأت أمريكـا (ومعها إسرائيل) إلي إستعمال القوة بشكل او بآخر، تعظيم تكلفة الحرب وبالتـالي تفادي الخسارة بطريق توسيع دائـرة الإشتباك لتعمّ المنطقة برمتها. في هذه الحال، لن تكون طهران مبتئسة إذا ما هاجمت إسرائيل سورية، بل ستجد في ذلك سبباً وحجة لمضاعفة طلباتها من أمريكا وأوروبا حتي حدود التعجيز بغية وقف التفاوض والإستعداد تالياً لردّ العدوان المحتمل.
حماس وغيرها من منظمات الإسلام الجهادي في فلسطين والعالم لن يخيفها قيام إسرائيل بفتح النار علي سورية. ستعتبر ذلك إقراراً من دولة العدوان بعجزها عن استرداد جنديّها الأسير بالقوة، ومحاولة تعويض عجزها هذا بتصدير أزمتها الداخلية إلي سورية الأمر الذي يخفف الضغط عن المقاومة الفلسطينية بل يفتح أمامها أُفقاً جديداً من الصراع القابل للتوسع علي مستوي المنطقة برمتها، وبالتالي لتدشين مرحلة جديدة متقدمة ومجزية من الكفاح علي طريق التحرير.
الحقيقة ان تعثّر حرب أمريكا في العراق وأفغانستان وتصاعد المقاومة فيهما، وتعثّر سياسة إسرائيل بالإنسحاب المنفرد من غزة والضفة الغربية وتجدّد المقاومة، وصمود المقاومة في لبنان، وتجدد الصراع المسلح في الصومال ودارفور وكردوفان، تشير مجتمعةً إلي تكامل مناخ إسلامي معادٍ لأمريكـا، يُغري قوي المقاومة المناهضة لها، ومن بينها إيران، بالرهان علي توسيع دائرة الاشتباك معها واعتبارها فرصة مؤاتية للتأسيس لمرحلة جديدة عنوانها إقصاء أمريكا تدريجا عن منطقة الشرق الأوسط الكبير الذي تستهدفـه حربها الفاشلة علي الإرهاب بإسم الديمقراطية.