ألفن توفلر - تريبيون ميديا سيرفس
يشكل التوتر الذي شهدته العلاقات بين الكوريتين الشمالية والجنوبية عقب إطلاق بيونج يانج لصواريخها وما أثارته من جدل في الأوساط الدولية دليلاً آخر على البطء الذي تسير به كوريا الشمالية في اتجاه تفعيل الجهود الرامية إلى حل النزاعات المستفحلة بين شطري شبه الجزيرة الكورية والدفع قدماً نحو الوحدة بينهما.
لكن على خلاف الولايات المتحدة التي تبحث عن تسوية سريعة لاحتواء مساعي كوريا الشمالية الحثيثة إلى امتلاك الأسلحة النووية وتطوير الصواريخ القادرة على حملها، لا تزال كوريا الشمالية مصرة على التلكؤ في المفاوضات بغية كسب المزيد من الوقت. ويعول القادة في بيونج يانج على تمديد فترة المفاوضات أطول فترة ممكنة لما في ذلك من خدمة لأهدافها القائمة على تطوير قدراتها العسكرية، لا سيما في مجال الصواريخ. وفي الوقت نفسه تذر الرماد في عيون المفاوضين بالبقاء جالسة على طاولة المفاوضات دون تحقيق تقدم فعلي. وهي بذلك تسعى إلى تعزيز موقعها التفاوضي مع الأطراف الستة لطرح مطالب أكثر جرأة، خصوصاً في حال تمكنها من تطوير صواريخ بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية.
ولا يبدو أن كوريا الشمالية مهتمة كثيراً لتحفظات جارتها الجنوبية التي عارضت تجربة إطلاق الصواريخ في الشهر الماضي وقامت بتعليق المساعدات الغذائية لبيونج يانج. هذه الأخيرة التي لم تقف مكتوفة الأيدي، بل أعلنت عن إلغائها لبرنامج تبادل الزيارات يسمح لأكثر من 16 ألفاً من الكوريتين الالتقاء ببعضهم البعض في إطار لم شمل العائلات. وليس غريباً في ظل هذا التوجه الذي يعتمد على البطء والتلكؤ لكسب المزيد من الوقت من أجل تحقيق أهدافها أن تلجأ كوريا الشمالية إلى تعطيل المفاوضات السداسية التي تجمعها مع جارتها الجنوبية واليابان وروسيا والولايات المتحدة والصين من خلال طرح مقترحات جديدة ثم معاودة سحبها، فضلاً عن ممارسات أخرى مثل انتقاد المفاوضين ورفض المشاركة في المفاوضات، ثم الرجوع إليها مجدداً فقط لتشرع في تكتيكات أخرى تروم تعطيل جهود المفاوضات وتأخير نتائجها. وإزاء غياب تهديد حقيقي من الولايات المتحدة، بشن هجوم على كوريا الشمالية تجد نفسها هذه الأخيرة طليقة اليدين للتمادي في عملية التلكؤ وعرقلة المفاوضات.
واللافت أن كوريا الجنوبية التي يجدر بها الضغط على جارتها الشمالية لإحراز تقدم ملموس على الطريق المفاوضات وحملها على الكف عن التسويف وربح الوقت، لا تبذل في الواقع سوى القليل من الجهد في هذا الاتجاه. وبالعكس من ذلك ثمة شريحة واسعة من الكوريين الجنوبيين، خصوصاً في أوساط الشباب، تبدي عداء سافراً للولايات المتحدة يفوق ما تبديه إزاء كوريا الشمالية، ولا تزعجها في شيء مناورات كيم يونج إيل. فالكثير من مواطني كوريا الجنوبية تخلوا على نظرتهم القديمة لجارتهم الشمالية على أنها خطر يهددهم بالصواريخ في حالة الحرب، واستبدلوا تلك النظرة بأخرى تأمل في التئام شمل الشطرين الشمالي والجنوبي وتوحدهما في إطار كيان واحد.
ويعتقد البعض أنه من الأفضل انضمام كوريا الشمالية إلى الاتحاد وهي تملك الأسلحة النووية، فتلك حسب نظرهم امتياز آخر سيجنونه من الاتحاد لذا لا يستعجلون مطالبة بيونج يانج بالتخلي عن برنامجها النووي. وهم أيضاً لا ينظرون بعين الاستياء إلى مناورات كيم يونج إيل الرامية إلى تعطيل جهود المفاوضات. وبالنظر إلى حسابات المصالح لدى الجانبين تحولت المفاوضات حول البرنامج النووي لكوريا الشمالية إلى مجرد رقصة تكتيكية حيث الطريق مازال طويلاً وبطيئا قبل التمكن من الخروج بنتيجة ملموسة.
وبالمثل يمكن رصد الأسلوب البطيء جداً في إنجاز الأمور يمتد إلى استراتيجية كوريا الجنوبية في مجال تحقيق الوحدة مع جارتها الشمالية ورد هذه الأخيرة عليها. ففي لقاء خاص بمدينة لوس أنجلوس ليس بعيدا جداً، أخبرنا quot;تشانك دونج يانجquot;، وزير كوريا الجنوبية المسؤول حينها عن الوحدة بين البلدين بأن حكومة بلاده quot;لا تسعى إلى الضغط على جارتها الشمالية لأن ذلك قد يدفعها إلى تبني سياسة متشددة والانكفاء على نفسهاquot;، موضحاً أن سياسة بلاده في هذا الاتجاه تعتمد على quot;الانخراط مع كوريا الشمالية بهدف تشجيعها على التعامل بإيجابية مع المجتمع الدوليquot;. لكن الوزير الكوري الجنوبي كان واضحاً في تشديده على ضرورة نزع كوريا الشمالية لسلاحها النووي قبل التقدم على طريق الوحدة بين البلدين. وفي هذا الإطار تبدو رسالة كوريا الجنوبية في تعاملها مع جارتها الشمالية صريحة للغاية، حيث لا ترى من داعٍ للعجلة على طريق الوحدة المنشودة.
ويأتي هذا الحرص من قبل المسؤولين في كوريا الجنوبية على التدرج البطيء في الانخراط مع كوريا الشمالية نتيجة للقراءة التي يعتمدونها للمتغيرات العالمية الطارئة مثل انهيار الاتحاد السوفييتي واعتقاد البعض أن كوريا الشمالية قد تضطر إلى تغيير سياستها الشيوعية المتشددة، فضلاً عن اعتقاد البعض بأن التحول الذي شهدته الصين والإصلاحات الاقتصادية الواسعة التي انتهجتها قد يؤثر إيجاباً على الرؤى الاقتصادية للمسؤولين في كوريا الشمالية ويدفعهم إلى التخفيف من سيطرة الدولة على الاقتصاد والسماح ببعض الإصلاحات على شاكلة الصين. وقد تضاعف الأمل أكثر لدى كوريا الجنوبية في تغيير جارتهم الشمالية لنهجها نحو الأفضل بعد قدوم جيل جديد من القادة إلى السلطة لم يشهدوا ويلات الحرب الكورية، وبالتالي احتمال تعاملهم بانفتاح أكبر مع المبادرات الرامية إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.
يضاف إلى ذلك المنافسة الصينية الشرسة التي يقودها الاقتصاد الصيني المنتعش، لا سيما في مجال اليد العاملة الرخيصة والتأثير السيئ لذلك على اقتصاد كوريا الجنوبية في مرحلته الثانية بعدما تخطى المرحلة الزراعية الأولى. لكن فجأة لاحت الفرصة أمام كوريا الجنوبية للاستثمار في جارتها الشمالية، حيث اليد العاملة أرخص ولا وجود للاتحادات العمالية. ولو فقط استطاعت سيئول إقناع بيونج يانج بالموافقة على فتح مناطق لإقامة المصانع والاستثمار لاستفاد البلدان وجنيا أرباحاً كبيرة. ولن يحول وصول اقتصاد كوريا الجنوبية إلى مرحلته الثالثة بعدما انتقلت الشركات إلى الاستثمار في التكنولوجيا المتطورة المنتجة للقيمة المضافة دون استثمارها في القطاعات التقليدية بكوريا الشمالية. ولعل الاختبار الأهم لهذا التوجه هو الصفقة التي أبرمت بين البلدين لإحداث منطقة صناعية تمتد على مساحة 25 ميلا مربعا خارج مدينة quot;كيسونجquot; في كوريا الشمالية. ويتوقع المسؤولون أن تشغل المنطقة ما يناهز عن 700 ألف عامل بعدما ضخت كوريا الجنوبية أموالا طائلة في المشروع تقدر بملياري دولار.
ومع نهاية 2005 وشروع المجمع الصناعي في الإنتاج لم يشغل سوى 500 من كوريا الجنوبية و6000 من عمال جارتها الجنوبية موزعين على مختلف القطاعات من صناعة النسيج والأحذية والساعات والأسلاك الإلكترونية في محاولة لمنافسة البضائع نفسها التي تنتجها الصين. لكن حتى في مجال التعاون الاقتصادي بين البلدين يبدو أن كوريا الشمالية- كما هو الحال بالنسبة للمفاوضات حول برنامجها النووي- ليست في عجلة من أمرها، والغريب فعلاً أن كوريا الجنوبية أيضاً تخلت عن سرعتها المعهودة.
فقد اشتهرت سيئول بحرق المراحل إذ استطاعت تحقيق معجزة اقتصادية في ظرف وجيز بانتقالها من المرحلة الأولى للاقتصاد القائم على الزراعة إلى المرحلة الصناعية خلال ثلاثة عقود أدهشت العالم، وها هي تدخل مرحلتها الثالثة بسرعة فائقة. غير أنه فيما يتعلق بالتعاون الاقتصادي مع كوريا الشمالية لا يشكل مشروع quot;كيسونج quot;سوى خطوة أولى ضمن مشوار طويل يمتد على مدى ثلاثين سنة مقبلة سيمر خلالها بالعديد من المراحل قبل الوصول إلى الوحدة المنشودة. ومع ذلك يشكك الكثير من الخبراء في مدى قدرة كوريا الجنوبية التي ألفت ثقافة السرعة والحركة على الالتزام بوتيرة جارتها الجنوبية الأقل سرعة.
التعليقات