الإعلامية اللبنانية التي تحولت laquo;رمزاraquo; تتحدث عن الصفحة الجديدة في حياتها.. وفي تاريخ بلادها


سناء الجاك


عادت مي شدياق الى الشاشة الصغيرة بعد تجربة مرة تعرضت لها، لتكون المرأة الاولى التي تستهدف في عملية اغتيال في لبنان. واجهت الموت في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 ونجت بأعجوبة من محاولة اغتيالها، لكنها خسرت نصف جسمها، كما يطيب لها أن تقول. لكنها وقفت بالنصف الباقي. دعمته بأعضاء اصطناعية laquo;أنيقةraquo; وبإرادة حديدية وباشرت تقديم برنامج حواري جديد على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال. عنوان البرنامج laquo;بكل جرأةraquo;. وهي تعتبره اسما على مسمى.

laquo;الشرق الأوسطraquo; أجرت الحوار التالي مع مي شدياق في بيروت لتطلع على المرحلة الجديدة من مسيرتها الاعلامية والانسانية، التي سبقت بفترة وجيزة الهجوم الاسرائيلي على لبنان والحرب التي استمرت طوال الشهر الماضي:

gt; كيف تفصل مي شدياق بين ما قبل 25 سبتمبر2005 تاريخ محاولة اغتيالك وما بعد؟

ـ اعلاميا جربت ان اعود الى التلفزيون كما كنت سابقا وكما تعود المشاهدون على اطلالتي. تحاشيت ان يدركوا ما أشعر به. أحيانا أعاني ألما رهيبا في ظهري. لكني لا أسمح لملامحي بفضحه. لا يمكن تجاهل اني عدت في فترة صعبة بسبب الحرب، فالبرنامج يبدأ بعد انتهاء نشرة اخبار الساعة الثامنة وينتهي الساعة 12.

ما يعني أن أبقى في مكاني على الكرسي غير المريح ثلاث ساعات. واحيانا الطرف الاصطناعي يضغط على ساقي ويدميها كأنه يقصها. من هنا ظروف العمل صحيا ليست سهلة ابدا. وفي الوقت ذاته جربت أن ابقى طبيعية لينسى المشاهد ما تعرضت عليه وكابرت على نفسي وحرصت على تحريك اليد الاصطناعية امام الكاميرا لأبدو في مظهر طبيعي.

gt; هل تعمدت ان يرتبط عنوان برنامجك بتعرضك الى محاولة اغتيالك؟

ـ اختيار عنوان بسيط وقوي للبرنامج أمر صعب، لاسيما في زحمة البرامج الحوارية التي تغزو الفضائيات اللبنانية والعربية. كانت الصعوبة تكمن في اختيار اسم غير مستهلك. كنت اناقش الامر مع فريق العمل. قالوا لي انت جريئة ولكن كيف يمكن لعنوان ان يعبر عن جرأتك. قلت laquo;بكل جرأةraquo; وهكذا كان.

فأنا وكما كنت جريئة سأبقى على رغم ان من حاول اغتيالي هدف الى اخراس صوتي. وسأكون صوت جميع الذين دفعوا حياتهم ثمن جرأتهم. سأكون صوت سمير قصير وجبران تويني وسيعطيني الله قوة لأبقى بهذه الجرأة. وفي الوقت ذاته سأعود الى عملي الصحافي المهني وضمن المهنية والموضوعية ومع الجرأة التي تمنحني القدرة على طرح مواضيع لا يجرؤ غيري على طرحها ويخاف من ردة الفعل. ولكن خارج التلفزيون سأكون حرة برأيي عندما يسألني احد عنه.

gt; بعد تجربتك هل تستطيعين ان تكوني حيادية؟

ـ أنا اعتبر اني أطرح أسئلة الناس.

gt; اسئلة الناس الذين يشبهونك؟

ـ لا. أنا أحاور ضيوفا من كل الاطراف السياسية في البلد. وافسح المجال لجميع الآراء. وانا دائما ألعب دور المحاور الوسط. ولكن اذا لم أطرح الاسئلة التي تعكس هواجس الناس وتنطلق من أجوبة الضيوف. حينها أكون كمن لُقن درسه. وهذا الاسلوب لا علاقة له بالصحافة. وأنا لا أحبه. بالنسبة لي لدي عنوان كبير هو لبنان ومصلحته وتحت هذا العنوان تطرح كل المواضيع وتدور الاسئلة.

gt; الا تتعارض المهنية الصحافية مع البقاء ضمن قيود الانتماء؟ هل تستطيعين ان تكوني حيادية ومهنية بعيدا عن قناعاتك السياسية التي كانت السبب في تعرضك الى محاولة اغتيال؟

ـ هذا ما يدور في ذهن الناس. وهذا ما أحاول ان اتخطاه. ولكن ردة فعلي كإعلامية على الامور ما زالت كما هي. فأنا عندما أضع أمامي الخطاب الأخير للرئيس السوري بشار الاسد عن لبنان. أتعاطى معه كما كنت أفعل قبل تعرضي الى الاغتيال. فأنا كلبنانية كنت ولا أزال أطرح الاسئلة نفسها من خلال عملي الصحافي. عندما يقول انه يريد تحويل النصر العسكري الى نصر سياسي، كان لا بد أن أسأل اذا كانت سورية قد شاركت في الحرب وانتصرت. أكيد أطرح السؤال كصحافية ولبنانية.

ولكن في قرارة نفسي أشعر بالقلق. انا جربت ان اكون مهنية. لكن القلق يتملكني عندما أسمع مثل هذا الخطاب قبل صدور نتائج التحقيق الدولي في جريمة الرئيس الراحل رفيق الحريري ورفاقه حتى جبران تويني. طالما لم يصدر التقرير ولا نعرف من ارتكب هذه الجرائم سأبقى أسيرة القلق. عندما يتم اتهام المذنب بشكل واضح. وأحصل على وثيقة بيدي فارتاح نفسيا وأقول علنا ان هذا المذنب حاول قتل الياس المر ومروان حمادة وقتلي. قتل رفيق الحريري وباسل فليحان وسمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني. حينها لا أضطر الى امرار الكلمات في مصفاة للمراقبة حتى لا اقع في الخطأ. انا انتظر تقرير التحقيق الدولي لارتاح واريح.

gt; ظهورك في برنامج حواري مرتين اسبوعيا الا يستنزف حضورك الاعلامي؟ وهل ستواصلين على هذه الوتيرة بعد عودة لبنان الى حياته الطبيعية؟

ـ المفروض ان اطل مرة واحدة اسبوعية. ولكن عندما قرر رئيس مجلس ادارة المؤسسة اللبنانية للارسال بيار الضاهر ان اعود بسرعة، لاسيما ان المحطة تحولت الى تلفزيون اخباري. وفي ظل ظروف صعبة بسبب اندلاع الحرب. الآن ستعود البرامج العادية واعود مساء كل ثلاثاء بعد نشرة الاخبار ولمدة ساعتين مع ثلاثة ريبورتاجات. الجيد اننا استطعنا في ظل هذه الظروف ان نميز انفسنا لان الريبورتاجات كانت المنطلق لطرح المواضيع. الفكرة ستتطور. نحن الان لا نجد طاولة لعملية المونتاج.

ولم نعتمد الديكور المناسب للبرنامج حتى الان. كل هذه الامور ستتم لاحقا. ولكن رب ضارة نافعة. لاني وجدت نفسي مرغمة على الغرق في العمل من دون تفكير ومن دون التوقف عند اصغر التفاصيل. ربما لو كنت املك الوقت لأفكر كيف سأعود الى الهواء وكيف سيحكم علي المشاهدون كنت سأرتبك. هكذا دخلت ضمن معمعة معينة وتعوّد على الجمهور. والآن سأصوب ما يحتاج الى تصويب.

gt; ماذا تنتظرين من برنامج حواري جديد؟ ماذا ستقدمين الى المشاهدين الذين ملوا هذه البرامج ولولا الحرب لما كان بالامكان جذبهم الى مثلها؟

ـ ربما اذا لاحظت وتابعت البرنامج منذ حلقته الاولى. هناك مستوى معين سعينا الى الحفاظ عليه. تناولنا المواضيع بعد دراسة وتعمق. طرحنا قضية الجيش اللبناني حتى قبل طرحها في المفاوضات. اعددنا تقارير عن الموضوع قبل أي حديث عن ارسال الجيش الى الجنوب. كذلك استضافة السفير الاميركي لدى لبنان وبعض الاعلاميين غير المستهلكين على الشاشة.

gt; هل يعود السبب في تجاوب هذه الشخصيات معك الى أنك مي شدياق التي تعرضت الى محاولة اغتيال. وبالتالي يصعب اجابة طلبها بالنفي؟ بمعنى آخر حصولك على برنامج حواري هل جاء نتيجة تعاطف مع محاولة الاغتيال وليس مع تدرج طبيعي لك في المهنة؟

ـ لا. لدي تجربة سابقة من خلال برنامج كان اسمه laquo;مواجهةraquo;، أعد وقدم خلال الانتخابات. لكن الحجة في توقيفه أن المحطة ليست اخبارية ولا تتحمل الكثير من البرامج السياسية. لكن من حقي في مسيرتي المهنية وبعد عشرين عاما أن أحصل على برنامج سياسي. الامر كان مطروحا قبل الحادثة.

gt; هل تعترضين على ضيوف معينين انطلاقا من قناعاتك السياسية؟

ـ أنا اختار ضيوفي بعد التشاور مع فريق العمل. أحافظ على مستوى معين يشمل تمثيل كل التيارات. لا اكن العداء لأي لبناني. كلنا ابناء وطن واحد، باستثناء الذين يغلبون مصلحة بلد آخر على بلدهم. ولكن لا اعطي منبرا لمن لا يملك مواصفات سوى التزامه الخارجي ويحتاج الى منبر ليستعرضها.

gt; هل تشعرين بمسؤولية نتيجة شهرتك بعد الحادثة؟ هل تظلمك هذه الشهرة مهنيا؟

ـ انا لا أخاف من المسؤولية ولا أخاف من الظلم. مع معرفتي ان هناك من يحسدني حتى على مصيبتي. لا ينظر اليها على أنها مصيبة وانما على انها سبب للشهرة. يحسدني اذا كرموني، لا يعترف أني استحق التكريم. قالها لي بعض الصحافيين بلهجة مازحة وكنت في المرحلة الاولى من العلاج. شعرت بغصة. وقلت في سري: ليتهم يأخذون ما يشاؤون ويتركون لي أعضائي سالمة.

gt; هل تغيرت نظرتك الى الموت بعد الحادثة؟ هل أصبحت تستخفين بأحزان الآخرين بعد أن عبرت تجربة قاسية؟

ـ (باكية) انا والموت والزمن طويل. توفي والدي وكان في السابعة والاربعين. ثم توفي أخي الوحيد وبعد ذلك ابنتا خالتي وكانتا صديقتيّ. أن أموت أسهل من أن اشهد موت غيري. لم أعد قادرة على موت الآخرين. الجميع يعرفون اني أتألم لموت جبران تويني أكثر مما اتألم لما أصابني

gt; هل تجدين في العمل تعويضا عن معاناتك الخاصة؟

ـ انا مرتبطة بمهنتي بزواج ماروني (لا يفسخ) بدأت العمل في سن الـ18، وضحيت بأمور كثيرة لأني أحب مهنتي. انا في حالة عشق مع عملي الصحافي والسياسي. أشعر من خلال المهنة اني صاحبة قضية ادافع عنها. حتى في حياتي العادية أملك قناعة بقدري. انتفض أحيانا وأسأل الله: لماذا تركتني نصف انسان؟ لكني سرعان ما أعود وأشكره على ما ترك لي من جسدي. أشكره على أن ملامح وجهي لم تشوه. غيري انتهى وتحول أشلاء. لم يتم العثور عليها.

* الابتسامة والإرادة .. وعصا جبران

gt; أطلت على كرسيها المتحرك بوجه ساكن ونظرات بعيدة، حزينة بعض الشيء. لكن مي استقبلتني بابتسامة عرضة. سألتها عن الحزن، فأجابت بأنها كانت متضايقة من الحر ليس أكثر، نافية أن تكون قد لبست ابتسامتها على عجل. قالت: laquo;أنا أنا لم أتغيرraquo;. تتكلم وتضحك وتتحمس للمواضيع التي تجذبها. تسخر من حالتها.

فهي متفائلة بطبعها وشفافة. قبل الحوار دعتني الى متابعة كلمة النائب سعد الحريري. بعد نصف ساعة استأذنت لأن الممرضة جاءت لتضع لها رجلها الاصطناعية، في حين كانت يدها الاصطناعية، مزين معصمها بساعة انيقة، وأصبعها بخاتم ذهبي. عادت حاملة عصا سوداء بمسكة فضية. قالت لي: هذه عصا جبران تويني.

كان يحملها عندما كسرت ساقه. أعطتني إياها زوجته سهام. لم نتابع الحوار لحظتها. تابعنا كلمة النائب وليد جنبلاط. علقنا على الوضع في لبنان وتداعياته، ثم عدنا الى الغوص في حياتها الخاصة والمهنية بعد الحادثة. قالت انها كانت دائما مستعجلة منذ بداياتها. قالت: laquo;حتى الموت استعجلته، لكنه لم يستقبلنيraquo;. ترفض أن يتعامل الآخرون معها كرمز. فهي إعلامية أولا وأخيرا. قبل وبعد. في حياتها المهنية ترفض أن تسجن في هالة يفرضها عليها من يتعامل معها ويتجنب خدشها كأنها إناء مشعور. لكنها تعرف أن الرمزية في شخصها واجب عليها من حيث ارتباطها بحق رفاقها في مسلسل الاغتيال، وتحديدا الذين دفعوا حياتهم.

مي التي كانت فخورة بمدى استقلاليتها، تعيش محاطة بمرافقين يساعدانها في تنقلاتها. وعلى باب البيت دركيان من قوى الامن الداخلي لحمايتها. لم يعد اقتحام استقلاليتها يزعجها فهي تحتاج الى الشعور بالامان.

الا أن والدتها تبقى ملاكها الحارس. تطل بين حين وآخر للاطمئنان عليها. تخاف على ابنتها اذا ضحكت بصوت مرتفع. تحسب انها وقعت. تراعي عدم تعرضها الى وهج الشمس. تسدل الستائر في الغرفة الزجاجية حيث اللقاء.