جاسر الجاسر


في أوائل الثمانينات الميلادية كانت الثقافة بمختلف أوجهها هي الأبرز، والصفحات الثقافية في الصحف هي كانت الندوات والمحاضرات الثقافية والمسرحيات الجامعية والأمسيات الشعرية الحديثة هي الأكثر جماهيرية. كان المسرح الجامعي في جامعة الملك سعود طلائعياً بكل المقاييس إذ يضم نخبة المخرجين، ويقدم عروضاً مسرحية راقية وممتعة أثّرت، جذريا، في الحركة الفنية السعودية، ويكفي أن معظم الممثلين السعوديين الناجحين هم نتاج تلك المرحلة الذهبية. ولم يكن هذا التميز مقتصراً على الثقافة في شكلها المباشر بل امتد إلى الإدارة والاقتصاد والسياسة؛ بمعنى أن الشباب كانوا يجدون أمامهم فضاءاً براقاً مليئاً بالتحدي والنجاح.

كانت السعودية بلداً ثقافياً فاعلاً، ومتطلعاً إلى موقع متقدم في الثقافة العربية كان من الممكن تحقيقه لو استمر الخط التصاعدي لتلك المسيرة اليتيمة والمنقطعة إثر ضربة هشة لكنها قاصمة تولى كبرها كتيب صغير لم تكن قيمته سوى أنه راية الموجة الصحوية الجديدة التي لفت البلد بعباءتها منذ عام 1988.

منذ تلك السنة، سنة النكسة، فُرغت السعودية من جميع النجوم الفاعلين فيها في جميع المجالات، وهيمن الصحويون على مختلف منابرها حتى أنهم طاردوا المطربين واللاعبين لدفعهم إلى الاعتزال كإعلان براءة من الخطايا السابقة أو الدخول في المنظومة الجديدة عبر التزام الخط العام، ومن هنا ظهر محمد عبده مؤذناً في أحد الأشرطة ومعلناً مايشبه التوبة، واعتزل المطرب الشعبي فهد بن سعيد ومات فقيراً. واكتسح اللاعبين مد ديني أثمر، ظاهرياً على الأقل، عن إطالة لحاهم وكذلك سراويلهم.

على أية حال لم يكن اللاعبون والمطربون ضمن دائرة المنافسة فهم لايتمتعون، غالبا، باحترام المتلقي وليسوا قدوة له ولا يؤثرون على قيمه ومفاهيمه، والعلاقة لاتتجاوز أطر المتعة المباشرة.

وقد لاحظ الصحويون أن فئة المطربين واللاعبين لاتتوافر على مهارات جدلية، ولاتمتلك رؤية ثقافية واضحة، الأمر الذي يجعل التأثير عليهم أمراً يسيراً، ولاشك أن الانتكاسات التي تعرض لها أفراد هذه الفئة ناشئة عن هشاشتهم الفكرية، وسرعة تأثرهم.

نجح الصحويون في خنق كل صوت ثقافي مغاير، بما في ذلك السلفية ذاتها، واستخدموا وسائل مرعبة تبدأ من التجسس والمراقبة، وتسليط بعض عناصر هيئة الأمر بالمعروف،ـ ولاتنتهي بالتكفير والعمالة وموالاة الكفار، حسب تعبيرهم. لذلك جفت ينابيع التجديد والتطوير المعرفي، وتلبست البلد مناخات محاكم التفتيش حتى كان حمل كتاب معرفي جريمة تلامس سقوف الإلحاد. مواليد الثمانينات تشبعوا بالظلمة المعرفية، وفقدوا كل الروابط بالعالم الإنساني؛ لايعرفون المسرح، ويحاربون الكتاب، ويجهلون معنى السينما، والأسوأ أنهم يظنون كل هذه الأشياء مجرد مظاهر للدعارة والفساد، وأن كل ماخالف أقوال مشايخهم هو جهل وانحراف وضلال، ولعل أوضاع طلاب الجامعة اليوم خير مثال على هذا الوضع المأساوي، ويكفي المرء أن يزور بهو جامعة الملك سعود ليرتاع من المصير الذي تقاد إليه الأجيال الجديدة.

أربعة عشر عاماً اكتست بالرعب، وأخمدت كل الأصوات، والتجأ المثقفون إلى الصمت أو الكتابة الذاتية بعد أن شعروا برضى السلطة عن هذا النهج، ودعمها المد الصحوي، بأشكال مباشرة أو غير مباشرة. التمرد الأول جاء من متمرد أصيل رغم بنيته الصغيرة وصوته الخفيض. في عام 1995 فجر تركي الحمد فتيل ثورة ثقافية مستنيرة عندما نشر كتابه quot;العدامةquot; وواصل دفقه دون أن يحظى بأي دعم حتى من مناصريه، وظل صوتاً وحيداً ومنعزلاً إلى حد كبير باستنثاء محاولات أخرى متفرقة إلى جاءت كارثة الحادي عشر من سبتمبر لتبث في أوصال المجتمع صحوة متأخرة لم تثبت أقدامها بعد.

حتى اليوم ماتزال الصحوة نافذة عبر نجومها القدامى الذين تحرروا من كل خطاياهم السابقة، وولدوا مجددا أنقى من البياض ذاته إلا أن ملامح الصراع هذه المرة ثقافية بحتة، بعد أن التزمت الدولة شيئا من الحياد مع بعض الحنين، أو ربما الثقة في الرموز الصحوية المتجددة، الأمر الذي قد يقلب المعادلة مجدداً.

مهما يكن من أمر فلقد ثبت أن الصحوة قامت على العنف وأن مقولاتها المعرفية لم تكن ذات صلابة وتماسك لو لم تستند إلى الدولة وتلوح بعصاها، وإن لم تفلح عصا الدولة كانت عصا التكفير تكتسح كل شيء أمامها.
الأمر يحتاج إلى جولات أخرى هي محك المستقبل وعلامات ضيائه، وهذه الجولات تقوم، من جانب واحد على الأقل، على الحوار الحر المباشر، وهذه بحد ذاتها سمة حضارية لم نعرفها منذ عام 1988.


[email protected]


عن صحيفة شمس السعودية