فارس خشّان
في العادة لا يُكثر وليد جنبلاط من الكلام، فهو ليس من الطينة التي تتباهى بما تقوله، ولا تتوقف عند ما تنجزه، ولا تستسلم عند مديح، ولا تسترسل في تحليل، ولا تقيم اعتباراً لهجّاء.
دائماً هو على سجيته، يكشف المعلومات حول المسائل التي تشغله، يسجّل الملاحظات حول الأداء المتصل بما يعنيه، يطلق نقداً لاذعاً حيال سلوكية quot;يستغبيهاquot;، ويترك المجال رحباً أمام ضيوفه الذين ينتقيهم بدقة.. الباحث دوماً عن جديد.
ولأن هذا هو وليد جنبلاط، يندر أن يجد المرء مائدة سياسية أغنى من مائدته. الى هذه المائدة ليس ثمة من يقيم كبير اعتبار للذة الأطباق الشهية التي تتوالى عليها، لأن عمق الافكار وصراحة الطروحات وخبرة الحضور، تعطّل وظيفة الحواس وتستفز طاقات العقل.
مساء اول من أمس، كانت مائدة وليد جنبلاط في دارته التاريخية نموذجية. نجمها محسن ابراهيم، الأمين العام لـquot;منظمة العمل الشيوعيquot; التي جرى تجميدها بقرار ذاتي له مقدمات تتمحور حول انعدام القدرة على أداء وطني سليم في ذاك الزمن الذي طغى عليه القرار السوري الساحق للعقول وللارادة... وللأجساد.
كان وليد جنبلاط برقياً أكثر مما سبق في تقديم ما لديه، ليفسح المجال لمحسن ابراهيم الذي استعان به في العام 1977 ليجسر بخبرته ما ظنه هوّة في خبرته السياسية، يوم خطفت رصاصات المخابرات السورية والده الشهيد كمال جنبلاط.
محاور من قلق جنبلاط
إلا أن هذه السلوكية البرقية، لا تمنع المرء من إدراك محاور النقاط التي يتركز عليها الهم الوطني الشامل لجنبلاط.
هو قلق من التشرذم المسيحي الذي ينتج هجرة quot;لمن لا قيمة للبنان من دونهمquot;، وينتظر مبادرة من البطريرك الماروني الكاردينال نصر الله صفير، لإعادة الإمساك بناصية القرار على غرار ما فعل في أيلول 2000 حين جمّع الطاقات المسيحية حول معركة السيادة والاستقلال والقرار الحر والوحدة الوطنية واتفاق الطائف، ولا يتوقف طويلاً عند الخرق الذي أحدثته الوثيقة السياسية للمجمع الماروني لأن quot;نصها طويل جداquot; أي أنها لا تصل الى الجمهور المسيحي الذي يحتاج الى كلام مباشر ظهرت بعض ملامحه في quot;النداء السابعquot; لمجلس المطارنة الموارنة.
جنبلاط يتساءل عن قابلية quot;حزب اللهquot; ليكون شريكاً آدمياً ـ وليس إلهياً ـ في إقامة الدولة اللبنانية، مصراً على وجوب إقامة حوار مباشر ومكثف مع إيران، توصلاً الى مخرج يوصل الى حل وطني كبير، إنطلاقاً من اعتقاد لديه ان السيد حسن نصرالله، على الرغم من تمتعه بـquot;كاريزماquot; قيادية، إلا أنه ليس القائد الحقيقي كما كان عليه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، على اعتبار ان عبد الناصر كان quot;سيد نفسهquot; في حين ان السيد نصرالله ليس كذلك، على ما تشي به الكلمة التي القاها النائب علي عمار في الضاحية الجنوبية، حيث يظهر بوضوح ان القائد الفعلي هو مرشد الثورة الاسلامية السيد علي خامنئي.
جنبلاط مهتم بمعرفة الافق الذي يمكن ان يصل إليه رئيس مجلس النواب نبيه بري في quot;سلوكياته الحميدةquot; التي اتبعها، قبل الحرب بالدعوة الى طاولة الحوار الوطني، وفي اثناء الحرب من خلال شراكته في إيجاد المخارج الموصلة الى وقف الأعمال الحربية، وبعد الحرب من خلال موقفه المهدّئ تجاه الحكومة. جنبلاط الذي يتذكر الموقع المهم الذي كان فيه بري بعد انتخابات العام 2000 والحرب الضروس التي تعرّض لها، عشية تمديد ولاية الرئيس أميل لحود والمعبّر عنها بما كوكبته سوريا في وجهه خلال الانتخابات البلدية في العام 2004 لتطويعه، لا يعارض من يبدي أمامه مخاوف على أمن الرئيس بري ولا يُناقض من يتكلم على استياء سوري من دور رئيس المجلس النيابي مستشهداً ببعض المعلومات الخاصة من جهة وببعض quot;الزكزكاتquot; المخابراتية المعبر عنها في بعض الوسائل الاعلامية، من جهة أخرى.
وهو مستاء من بعض quot;الرخاوة الامنيةquot; التي تتجلّى، من جهة أولى في عدم التشديد على معرفة من في داخل تلك السيارات الـquot;مدخّنةquot; الزجاج، كما تترجم، من جهة ثانية، في استمرار دخول الاسلحة الى لبنان من خلال معابر سرية ولا سيما منها تلك الموجودة على الحدود الشمالية.
جنبلاط الذي يعتبر ان لا مجال في العمل السياسي والشعبي أمام قلب الأوضاع الداخلية، يبدي تخوّفاً جدياً من اغتيال كبير في ظل معلومات تفيد أن بعض الدوائر السورية المحركة للأجهزة الامنية، بدأ يتكلم عن رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة ورئيس quot;تيار المستقبلquot; النائب سعد الحريري بالاسلوب نفسه الذي كان يتبعه، عشية تنفيذ جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
بعض من محسن ابراهيم
عند هذا الحد، يترك سيّد المختارة الكلام لمحسن ابراهيم الذي يبدو shy;في هذه الايام shy;أنه يعيش حالاً من الاندماج الفكري والسياسي مع جنبلاط الذي تجمعه به ذكريات لا تُمحى من الصفحات التاريخية لهذا الوطن.
تكمن أهمية مقاربات محسن ابراهيم ليس في كونها تضع خبرة الأمس في خدمة تفسير الحاضر واستشراف الغد، فحسب بل لأنها تنطلق من شخصية لا يستطيع أحد أن ينازع في عمق التزامها العداء لإسرائيل ولا سيما من قبل بعض quot;قومييquot; اليوم، ممّن مروا الى الحياة العامة من مدخلها وسجّل التاريخ على أدائهم مهادنة مع العدو الاسرائيلي وترويجاً لرموزه، يوم كان جيشه يطرق ابواب العاصمة ويشرف على ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا.
في ذهن محسن ابراهيم الذي كانت طروحاته تلقى استحساناً ظاهراً من وليد جنبلاط، أن البلاد تحتاج اليوم الى نقاش علني وصريح ومفتوح مع quot;حزب اللهquot;، لأنها المناسبة الاولى من نوعها في البلاد التي تكون الساحة الوطنية مهيّأة لنقاش من دون شبح الحرب الأهلية، على ما كانت عليه الحال في التجارب السابقة.
وعدم خوف ابراهيم من الحرب الأهلية نابع من إدراكه أن حرباً مماثلة تحتاج الى طرفين غير متوافرين.
والنقاش المفتوح مع quot;حزب اللهquot; قوامه فكرة الدولة. أما فكرة الدولة فلها عقد تأسيسي قوامه احتكار العنف وتوفير الحماية. وهذا النقاش، في رأيه، لا تنحصر نتائجه الايجابية على البلاد من كونه يطال quot;حزب اللهquot; المسلّح، بل من كونه يوفر فرصة تاريخية للبلاد للخروج من أفق الحمايات الطائفية الراسخة على مر التاريخ، بحيث لا تعود الدولة عاجزة عن فرض سيطرتها العادلة، بالقوة، على كل المرجعيات الدينيةshy;السياسية.
وفي اعتقاده ان فتح هذا النقاش على مصراعيه، يعطل في السياسة وظيفة سلاح quot;حزب اللهquot; الذي يتفق الجميع، وفي مقدمهم جنبلاط، على أن لا حل عنفياً له.
وكما يرى سيد المختارة كذلك ضيفها الحميم الذي يرى أنه لا يمكن التعويل على quot;الانتصار التقنيquot; لـquot;حزب اللهquot;، على اعتباره إشادة بواقعة بطولية في سياق أنتج تكلفة كارثية للبلاد، وهو شبيه، الى حد ما، بتلك المواجهات البطولية التي سجلها المقاومون خلال الاجتياح الاسرائيلي في العام 1982 على محاور عدة لعل أبرزها محور خلدة، وجعلت العدو الاسرائيلي يتكبد 650 قتيلاً من ضباطه وجنوده.
وفي هذا السياق، لا يقيم محسن ابراهيم اعتباراً لما يسمى تغييراً في الشارع العربي أحدثه quot;انتصار المقاومةquot;، لان ما شهده الشارع العربي، في حقيقة الأمر، هوتعاطف مع quot;حزب اللهquot; وليس تبنياً لخياره، فلو ان هناك فعلاً تبنياً لخيار المقاومة، لكان العالم يشاهد الآن تظاهرة مليونية في مصر تطالب الرئيس حسني مبارك بحل اتفاقية السلام مع اسرائيل والذهاب الى الجبهة أو لكانت التظاهرات تعمّ سوريا مطالبة الرئيس بشار الاسد بالذهاب الى الجولان.
ولأن الصورة العربية ليست كذلك، فهو يعتبر ان ما حصل في الشارع العربي لا يعدو كونه تنفيساً لاحتقان ضد اسرائيل بتأييد الصراع معها ولكن ليس على عاتق المصالح الوطنية لهذا الشارع بل على عاتق مصالح الشعب اللبناني، مستذكرا ان الشارع العربي الذي يمكن الركون إليه، هو ذاك الذي كان متوافراً في الستينات والسبعينات حيث كان العراق، على سبيل المثال، يخشى من أن يؤدي عدم ارسال فرقة من جيشه لمحاربة اسرائيل الى انقلاب يطيح القيادة الحاكمة.
ويعتبر محسن ابراهيم أن تشجيع quot;حزب اللهquot; لمواصلة معركته مع اسرائيل قد يكون في بعض أوجهه تعبيرا عن رغبة بإفناء قيادة quot;حزب اللهquot;، مشيرا في هذا المجال الى ان القيادة السورية في العام 1982 إستاءت جدا من توصل قيادة quot;منظمة التحرير الفلسطينية quot;الى تسوية أخرجتها سالمة من بيروت ومنعت تحول بيروت الى أرض محروقةquot;.
ويشير في هذا المجال الى أن هناك من عرض في العام 1982 على الرئيس الراحل ياسر عرفات تحويل بيروت الى ستالينغراد ثانية، ولكننا رفضنا ذلك وقلنا لابو عمار إن هتلر انهزم عندما حول ستالين مدينته الى ارض محروقة بالكامل، فهل ثمة أفق لننتصر نحن وننهي اسرائيل إن تحولت بيروت الى أرض محروقة، فكان الجواب بعد استعراض الواقع الدولي والعربي أن ذلك مستحيل على الرغم من ان الأربعمائة الف لبناني الذين كانوا في بيروت إنما صمدوا للمؤازرة في مواجهة الحصار الاسرائيلي.
وعلى هذا الاساس، تمّ تحديد هدفين من أي حل مرتقب، وهما سلامة بيروت من الدمار من جهة اولى وسلامة قيادة quot;منظمة التحرير الفلسطينيةquot; من جهة اخرى.
ويقول محسن ابراهيم: quot;هذا يعني ان النقاش المفتوح مع حزب الله يفترض ان يتمحور حول هدفين بعد التسليم بالمشترك. أما المشترك فهو ان اسرائيل هي عدو كامل المواصفات للبنانيين، وهذا ما أضحى مسلماً به، بدليل الادبيات التي يستعملها البطريرك صفير والتي تركز على عبارة quot;العدو الاسرائيليquot;. أما الهدفان فهما توفير فرصة للبنانيين لاقامة دولة حقيقية غير مرتهنة لدوامة التدمير الدوري، وثانيهما الحرص المشترك على سلامة قيادة المقاومةquot;.
ولا يعتقد محسن ابراهيم بإنتاجية لبنانية واقليمية لأي عمل إرهابي يمكن ان يطال القوات الدولية العاملة في لبنان حاليا، على ما كانت عليه العمليتان اللتان استهدفتا القوات الفرنسية والاميركية في لبنان بعد خروج القوات الاسرائيلية من بيروت الكبرى، لأن أفق المهمة المناطة الآن بهذه القوات الدولية مخالف جدا لافق المهمة التي كانت مناطة بالقوات الفرنسية والاميركية يومها.
ويلفت الى ان الواقع اللبناني الذي كان رافضا للنتائج السياسية والعسكرية للاجتياح الاسرائيلي التي جاءت هذه القوات لتكريسها وحمايتها، جعلت استهدافها quot;عملاً مقدساًquot; لدى شريحة واسعة جدا من اللبنانيين الذين عادوا وأنتجوا انتفاضة السادس من شباط الشهيرة، اما اليوم فان هذه القوات لم تأتِ لتنتج وقائع سياسية داخلية جديدة ولم تلحق بهزيمة ساحقة اصابت معنويات اللبنانيين، بل أتت بشرعية الامم المتحدة وبهاجس منع لبنان من ان يكون جاذباً للصراع من جهة ومنع اسرائيل من توفير حجة لها لتدمير لبنان، من جهة اخرى.
وفي اعتقاده ان اختلاف الأحوال بين تجربة الثمانينات والحالة الراهنة، لا تحرم أي عمل يمكن ان يستهدف القوات الدولية نتيجة تغييرية فحسب، بل تجر على من يتبين انه يقف وراءه ويلات لا يمكن لعاقل ان يجرها على فريقه او على نظامه.
كلام كثير قيل في تلك الجلسة، ولكن لا بد من حفظ حق محسن ابراهيم في الاعلان عما يريد، حين يستجيب لأمنية جنبلاط بإخراج ما في جعبته الى اللبنانيين والعرب، بالشكل الذي يراه مناسباً وعلى المنبر الذي يعتبره ملائماً.
التعليقات