الإثنين: 2006.09.25

عائشة المري


بدأ شهر رمضان الكريم، أكرم الأشهر عند الله، شهر العبادة والعطاء، شهر يحمل في طياته أسمى القيم الإسلامية من تجرد للنفس من ملذاتها الدنيوية، فالامتناع عن الأكل والشرب لساعات معينة لا يحمل بالطبع جوهر عبادة الصوم، هي صيغ عامة لمفهوم روحاني أسمى يبدأ بمحاربة الأهواء والنفس الأمَّارة بالسوء وصولاً للتصالح مع الذات والتوبة والمغفرة من الذنوب والمعاصي. حالة صوفية يمر بها كل مسلم قد يقف على عتبتها وقد يمضي في أعمق مراحلها. هي مرحلة تطهير للذات الإنسانية حالة روحية من التغيير والتقوى، حالة جعلت من رمضان كما عهدناه طعماً مختلفاً، لمقدمه حلاوة ولانتهائه فرحة بالعيد. كان رمضان احتفاء بالحواس، حالة من العشق الجماعي استشعرناها في طفولتنا حين كان رمضان يعني صياماً وصلاة تراويح ومدفعاً نصغي لصوته لنعلن قبل صوت أذان المغرب عن موعد الإفطار، ولا ننسى بالطبع الفوازير المصرية والمسلسلات التاريخية التي تحكى بلغة فصحى معوجة ومسلسل كويتي وحيد نتحلَّق لمتابعته أيام شهر رمضان حتى تنتهي حلقته الأخيرة في اليوم الثالث عشر كعرف فني سائد. لم يكن التلفاز هاجساً كان جزءاً من مظاهر رمضان، لم يكن الكل ولم يكن الجوهر، لكن لماذا كان لرمضان اليوم طعم مختلف؟ كيف نذيق أطفالنا طعم رمضان؟ نعم هو رمضان جديد تشكل في السنوات الماضية ومازال في طور التطور وصولاً للقلب إلى شهر الاستهلاك للعامة والاستثمار للتجار، وليفرّغ الشهر الكريم من روحانيته إلى مظاهر استهلاكية ويتحول معه الشهر إلى سلعة.
في مدن تحتفل برمضان بمهرجانات للتسوق، بحملات دعائية تحول مع الشهر لسلعة فعبارة quot;رمضان كريمquot; ترافق كل السلع الاستهلاكية حتى حفاظات الأطفال، وفي كل ملصق إعلاني فـquot;قشطة شهر رمضانquot; وquot;مشروب شهر رمضانquot; وquot;رز شهر رمضانquot; حتى حسبنا رمضان مائدة وطبخاً وأكلاً.
وانتقل quot;رمضان كريمquot; من أرفف الجمعيات الاستهلاكية والأسواق إلى الأعمال الدرامية العربية التي يتسابق منتجوها للعرض في شهر رمضان، في هجمة غير عادية للدراما المصرية التي استشعرت المنافسة من الدراما السورية لتدخل على الخط الدراما الخليجية، ولتبتكر الفضائيات العربية عبارة quot;حصرياً على...quot; في جو مشحون بالمنافسة لاستقطاب المشاهدين والمعلنين، أما هواة المسلسلات العربية فيستنفرون لإعداد أجندة للمسلسلات لكن حتى لو سعوا محمومين فلن تغطي متابعتهم ربع المعروض. لقد تحول الشهر الكريم إلى مناسبة لعرض ما يزيد على الـ70 في المئة من الإنتاج العربي السنوي من البرامج المتنوعة، وموسم ناجح للدعاية والإعلان التجاري.. نتيجة الإقبال الكبير من المشاهدين.
الطريف في العقليات التي ترسم خريطة البرامج التلفزيونية أنها واحدة في كل القنوات، أو أنها تعيد استنساخ نفسها، فالفقرات تتوالى بنفس النسق، إذ تبدأ البرامج والمسلسلات بعد الظهر في حلقاتها الجديدة بينما تخصص فترة الصباح الباكر لإعادة المسلسلات، ثم تبدأ برامج الطبخ والمطبخ العربي والهندي والياباني ... بتنويعات مختلفة وصيغ متباينة لكنها تعزف على نغمة الأكل وشهوة البطن في نهارات رمضان، ومع فترة العصر يتوالى عرض المسلسلات وصولاً للفقرة الدينية والتي لا تخرج عن حديث ديني قصير ثم آيات من الذكر الحكيم وليعلن آذان المغرب البداية الحقيقية للمنافسة بين الفضائيات العربية.
ومع اللقمات الأولى في إفطار الصائم تبدأ عملية تهريج متواصلة لسنوات فيما يسمى بـquot;الكاميرا الخفيةquot;، ولا نعرف حقيقة كيف لبرنامج يبدأ بالاستهزاء بطيبة الناس ورغبتهم بمد يد المساعدة حتى تحدى صبر الضحايا بسماجة الممثلين أن يستمر لسنوات بتنويعات مختلفة على ذات الفكرة السخيفة، وكيف لم يلجأ أي من ضحايا المقالب السخيفة لرفع قضية على شركة الإنتاج والتلفزيون؟ حقيقة أستغرب استمرارية هذه البرامج خاصة بعد أن انتقلت من الإنتاج المحلي، وأستغرب وجود فئة تتابع خفة ظل المقدمين، فهل يوجد مشاهدون لها، أشك في ذلك؟ وبعد جرعة السخافة التي يفطر معها الصائم تتوالى الفقرات الفكاهية كما يسمونها تهريجاً وضحكاً على ذقون المشاهدين ومن قبلهم شركات الإعلان، ويستمر تكرار وإعادة إنتاج أجزاء جديدة في متوالية لن تنتهي عندما تجد ما يغذيها من برامج فضائية وأغانٍ فضائية مذيعات ومذيعين، ممثلاث وممثلين، ولا ننسى وسط هذا الزخم الإعلامي مسابقات رمضان كصيغة مطورة لفوازير رمضان quot;المصريةquot;، وهنا تتنوع بالطبع المسابقات المقدمة وحتى الجوائز المقدمة فكما الناس طبقات، فالفضائيات طبقات أيضاً. ووسط هذا وقبله وبعده مسلسلات تتحدث عن كل شيء ولا شيء، مسلسلات تتحدى صبر المشاهد بطولها ومط أحداثها للتوافق مع أيام الشهر الفضيل 29 يوماً إن كان المخرج يريد أن يتأكد من مشاهدة الحلقة الأخيرة، و30 حلقة للمتفائلين من مخرجي رمضان والمراهنين على إخلاص المشاهد حتى يوم العيد. تتكثف أحداث المسلسلات وتتصاعد المشكلات لكنها ويا للعجب تُحل في الحلقة الأخيرة فالنهايات السعيدة مريحة، ولن ننسى بالطبع ما استحدث في رمضان من عرض الممثلات وللأسف الخليجيات للخدود المحقونة بالسلكون والأنوف المقطوعة والمعدلة البشعة بكل المقاييس الجمالية، ويترافق مع رداءة الحبكة الدرامية مزيج عجيب من الألوان الفاقعة، المكياج الصاعق، وعرض الأزياء الفج في مسلسلات لا نملك إلا أن نطلق عليها مسلسلات ربات البيوت.
فقد الشهر الكريم خصوصيته أو ما تبقى منها، فعبر عملية تدجين استمرت لسنوات تحول شهر رمضان الكريم شهر الصوم والعبادة والتقوى، إلى معرض منتجات، وساحة للدعاية والإعلان، ومهرجانا للتسوق والتسويق، ولا ننسى بالطبع الخيم الرمضانية، والسهرات الرمضانية، والأسواق الرمضانية، والنتيجة ضياع عظيم وتقصير في الاستفادة من روحانية هذا الشهر الكريم. وتقصير حتى في العمل والدراسة بما يصاحب الأنشطة المسائية من كسل وخمول صباحاً، فقد بدأت حمى رمضان تجتاح القنوات العربية الأرضية والفضائية المشفرة وغير المشفرة، ووسط تخمة درامية سيغص بها المشاهد العربي.