غسان الإمام


كنت أود أن أستمر في الحديث هذا الثلاثاء عن محاولة استرداد الهوية العربية المضيَّعة في هذا الصراع اللاهب في المنطقة بين أميركا وإيران. لكن خطاب حسن نصر الله جاء ليكرس لبنان ساحة من ساحات هذه المواجهة، بحيث يصعب تفويت المناسبة، من دون الوقوف عند الخطاب والتعليق عليه.

آلت الحرب في لبنان إلى عودة اسرائيل إلى احتلال شريط حدودي ضيق، وانكفاء قوات حزب الله الى الداخل.

انتهزت أميركا وفرنسا الفرصة، فأنزلتا laquo;قوات دولية لحفظ السلامraquo; تتمتع بشرعية الأمم المتحدة، للفصل بين المتحاربين.

ويبدو أن هذه القوات تتمتع أيضاً بموافقة السنة والدروز والمسيحيين الذين يشكلون ثلثي اللبنانيين، ويدعمون حكومة السنيورة. فقد رأوا في القوة الدولية، على علاتها، حدا أدنى من ضمان عدم عودة laquo;حزب اللهraquo; إلى المغامرة بلبنان، بعدما بات دولة أقوى من الدولة، فارضا سلطته ونفوذه عليها بقوة السلاح.

كنت أحسب أن مرحلة laquo;لعق الجروحraquo; ستطول، ريثما يمارس laquo;حزب اللهraquo; نقد الذات، ومراجعة التجربة، وترميم علاقته مع الطوائف الثلاث، لكني كنت مخطئاً. فها هو الحزب يعود مرة أخرى إلى توتير الوضع المأزوم في لبنان، مهدداً بعشرين ألف صاروخ، ومهاجما laquo;شركاءهraquo; في الحكومة، والنظام العربي، والقوات الدولية. الواقع ان الحرب لم تحسم معادلة النصر والهزيمة. اسرائيل تطالب حكومة السنيورة والقوات الدولية بتنفيذ القرارين الدوليين 1701 ـ 1559 اللذين ينصان على تجريد الحزب من السلاح. لكن التفاهم، على الطريقة اللبنانية، بين حكومة السنيورة والقوات الدولية تم على أساس أن يخبئ الحزب سلاحه وميليشياه تحت الأرض، وتتولى القوات الدولية واللبنانية مراقبته وحصاره فوق الأرض!.

عند السوريين واللبنانيين مثل شعبي يقول: laquo;فلان في بوز المدفعraquo;، أي في المقدمة والواجهة في أية أزمة. هكذا لبنان اليوم. فهو في laquo;بوز المدفعraquo;. لبنان الذي laquo;علقraquo; من ذيله الجنوبي في صراع العرب مع اسرائيل، laquo;يعلقraquo; الآن بصراع آخر، الصراع بين أميركا وإيران الذي laquo;علقraquo; به أيضاً النظام العربي.

بعد الخطاب laquo;الجهاديraquo; لنصر الله، فاحتمال المواجهة الساخنة قائم بين القوات الدولية التي تختفي وراءها أميركا وأوروبا، وlaquo;حزب اللهraquo; الذي تختبئ إيران في عباءته.

لكن لماذا هذا الاشتباك المحتدم بين ايران وأميركا؟

الصراع يشتعل فوق ركام تاريخي من العلاقة العاصفة بين إيران والغرب منذ القرن التاسع عشر. ظنت أميركا بسحبها الشاه أمام الخميني انها ستكسب سيفا دينيا آخر في حربها مع السوفيت، لكن الخميني في محاولته تصدير ثورته الى العرب والمسلمين، جعل من أميركا laquo;بعبعاً شيطانياraquo; دائماً، يلهب به خيال المؤمنين. عاد الخمينيون الجدد إلى الحكم في مطلع العام الحالي، على إيقاع الشعور بفشل الدولة الدينية المحكومة برجال الدين. بخلاف العالم العربي الذي تركبه الهوسة الدينية المتسيسة، فقد أنتج نظام الخميني بعد ربع قرن، جيلاً رافضاً لكآبة تجربة تسييس الدين، بكل ما رافقها من ظلم وإفساد وإفقار. رداءة سمعة أميركا نتيجة لغزوها العراق وانحيازها لاسرائيل، شجعا زمرة نجاد الخمينية المتحالفة مع غلاة المحافظين الدينيين، على التغطية على laquo;هشاشة عظامraquo; النظام، بإعادة تصدير الخميني ثانية إلى العرب. وجد الخمينيون الجدد في شيعة العراق ولبنان عود الثقاب لإلهاب خيال شارع عربي غاضب على أميركا واسرائيل. في العراق، يلعب الخميني نجاد دورا طائفيا بحتا، بتمويل وتشجيع شيعة النظام وميليشياته، على طمس عروبة العراق، وتقسيمه مع الأكراد الى جيوب طائفية وعرقية.

في لبنان، الخميني العائد يختلف عنه في العراق. وعي شيعة لبنان لعروبتهم أجبر الخميني الجديد على laquo;تعريبraquo; الهجمة الفارسية على العرب، بتبني المواجهة مع اسرائيل. براعة الالتفاف والشعار اكسبت إيران حليفا سنيا: الإخوان المسلمين laquo;الحماسيينraquo; في فلسطين، والإخوان المتعاطفين معهم في الأردن ومصر والجزائر.

عثر الخمينيون الجدد في laquo;العفريتraquo; النووي على ضالتهم في حماية نظامهم الهش من أي تدخل خارجي لإزاحته بالقوة. عندما تعثرت محاولة التغطية على إطلاق العفريت من القنينة، تم توريط laquo;حزب اللهraquo; في مواجهة مع اسرائيل، لإلهاء العرب والغرب عن خطر إيران النامية نوويا.

هذه باختصار خلاصة المواجهة التاريخية والراهنة بين ايران والغرب. لكن كان لا بد من إعادة ترميم laquo;حزب اللهraquo; بعد حرب دموية وتدميرية غير حاسمة. وهكذا، تم رش المال الإيراني فوق الجروح. أعيدت عسكرة الطائفة، وتجييشها وسوقها جحافل جحافل لمبايعة laquo;حزب اللهraquo; وlaquo;نصر اللهraquo;.

يجري طرح laquo;السيدraquo; ليس زعيما مجاهدا لشيعة لبنان فحسب، إنما وهبته الدعاية الإيرانية لشارع عربي عصفوري الخيال laquo;زعيماraquo; للأمة العربية! بل يجري تصعيده الى رتبة المعصومية بالتركيز على laquo;مواهبهraquo; الشخصية والزعامية، وتصوير laquo;نصرهraquo; على أنه laquo;إلهيraquo;! بشكل لم يألفه العرب في تاريخهم وحاضرهم.

لا شك أن laquo;السيدraquo; يتمتع بموهبة خطابية فذة لا يملكها خصومه اللبنانيون، ولا ُتجارى في القدرة على المغالطة والتقنية، وفي تلميع الحجج والذرائع والأسباب التي يسوقها، ويصعب تنفيذها وانتزاعها من دماغ جمهور مخدر بفصاحة لسان ناعم ذرب.

لا أدري ما هو هذا النصر laquo;الإلهيraquo; الذي حيَّد الحزب وأخرجه من دائرة المواجهة المباشرة مع العدو، وجاء بقوات احتلال دولية، وخطف أرواح 1200 شيعي، ودمر ثلث لبنان، وترك laquo;الحدود مفتوحةraquo; باعتراف laquo;السيدraquo; نفسه؟ هل من المعقول أن يفعل نصر laquo;ربانيraquo; برعيته المؤمنة، مثلما الذي حل بلبنان؟

أدارت حكومة السنيورة المعركة السياسية والديبلوماسية بكفاءة وتمكنت، بعد جهد جهيد، مع العرب من تحقيق أمنية الحزب بوقف إطلاق النار. laquo;السيدraquo; الآن لا يريد هذه الحكومة laquo;العاجزة عن الدفاع والإعمارraquo;! يطالب بحكومة laquo;وحدة وطنيةraquo; تكرس التوازن الطائفي، وتقبل بسلطته وميليشياه وسلاحه!. دمرت الميليشيات تاريخيا حياة لبنان. حاولت ميليشيا الحزب السوري القومي القيام بأكثر من انقلاب. انتهكت الميليشيات الفلسطينية سيادة لبنان ومزقت سلطته. تسببت الميليشيات الكتائبية بالحرب الأهلية. laquo;السيدraquo; لا يعتبر بالتاريخ. ها هي ميليشياه تورط لبنان في مواجهة حربية غير متكافئة. ثم يغالط السنة والمسيحيين والدروز: خذوني بسلاحي. أتعهد بعدم استعماله ضدكم. لكن عندما داعب التلفزيون laquo;معصوميتهraquo; نزل رجاله إلى الشارع ليضربوا السنة والمسيحيين. يستمر laquo;السيدraquo; في المغالطة: حزب الله ليس حزبا طائفيا ولا إيرانيا. انه حزب لبناني.. يصدق الجمهور المخدر على الكراسي. تصفق الأكف. تعلو الأصوات المحشودة: laquo;يقبرني اللي خلقكraquo;! تصيح جماعة عون laquo;إنه أيقونة لبنانraquo;! يهتز أبو علي على الكرسي. يصيح مؤيداً: laquo;هذا هو اللبناني الجميلraquo;.. آه! يا جميل يا جميل!

تتوالى المغالطات ببراعة. تكيل المديح لإيران. تخوِّن النظام العربي. تهاجم مبادرة السلام العربية. وسط كل هذا الهذر، ألا يحق لي أن أسأل: من صدام إلى laquo;السيدraquo;، من أم المعارك إلى النصر laquo;الإلهيraquo;، إلى متى يكتب على العقل العربي أن يرفع المهزوم قائداً، ويعتبر الهزيمة نصرا، ويصنِّف المغالط في الحساب منتصراً؟، بلا نقد لمغامرته، وبلا محاسبة لتجربته؟.. إلى متى؟!