جهاد الخازن



نلت نصيبي من رحلات العذاب في الصيف بين مطارات أوروبا، خصوصاً مطار لندن، بعد تهديدات الارهاب laquo;السائلraquo;، ووصلت الى مطار كنيدي في نيويورك متوجساً، وأعد نفسي لتحقيق في معتقل سري تحت المدارج، الا انني خرجت من المطار كله مع حقيبتي التي وصلت معي هذه المرة، في خمس دقائق، ومن دون ان أسمع شيئاً غير كلمات الترحيب بي وبالحقيبة التي لم يجد رجال الجمارك سبباً لفتحها.

أشكر سلطات نيويورك كافة التي لم تجد في اسمي سبباً يدعو للقلق، مع أن بابا روما نفسه هاجم laquo;الجهادraquo;، أو جهاد كما تكتب الكلمة بالانكليزية، وهب المسلمون حول العالم للدفاع عني فشكراً لهم أيضاً.

الانسان في نيويورك يعرف بسرعة أين هو، ففي الطريق من المطار الى الفندق، سارت الى جانب التاكسي الذي نقلني، سيارة ليموزين طويلة سوداء، زجاجها قاتم فلم أرَ مَن في داخلها، لفتني اليها رقمها فقد كان laquo;صهيون 7raquo; ولا أتصور أن من يملكها يريد أن يتنقل بها في قندهار أو طهران.

ايران جاءت الينا بدل الذهاب اليها، فقد كانت أول محطة لي بعد التسجيل في الفندق بعثة مملكة البحرين، ومقرها الى جانب ميدان داغ همرشولد، ووجدت أن تظاهرات الصينيين من جماعة فالون غونغ السنة الماضية، خلفها تجمع لخصوم ايران، مع لافتات تعارض أن تمتلك أسلحة نووية، وصورة كبيرة للرئيس محمود أحمدي نجاد مرفوعة بالمقلوب. وأعطيت منشوراً يهاجم نيات ايران النووية. وشكرت المعتصمين وتمنيت أن يبذلوا جهداً مماثلاً ضد الاسلحة النووية الاسرائيلية... طبعاً شكرتهم بالعربية حتى لا يفهموا رأيي في اسرائيل وأنا في عاصمتها الأميركية.

الجانب الآخر لميدان داغ همرشولد ينتهي قرب مقر الأمم المتحدة، ووجدت هناك تظاهرة سودانية، أو لناس سود يريدون عودة اللاجئين والمهاجرين والمهجرين الى دارفور، وهؤلاء لهم تأييدي الكامل مع أنه لا يغني شيئاً. وكانت هذه التظاهرة على وقع طبول افريقية ذات ايقاع جميل، وبنات صغيرات يوزعن منشورات على المارة.

في اليوم التالي، وأنا في طريقي الى مقر الأمم المتحدة، وجدت نفسي وسط تظاهرة حقيقية ضمّت بضع مئة يهودي، أكثرهم من الشباب الذين كانوا يهتفون دفاعاً عن اسرائيل ويهاجمون ايران، مع موسيقى عالية. وأعطيت مطبوعة أكثرها بالعبري، أرجح أن اسمها laquo;صوت اسرائيلraquo; أو laquo;صوت اليهودraquo; وعلى صفحتها الأولى صورة لبنيامين نتانياهو، وقررت أنه لا بد يكذب، مع أنني لا أقرأ العبرية ناهيك عن أن افهمها. كذلك أعطيت اسورة من المطاط عليها اسماء إلداد ndash; جيلاد ndash; اودي، ويفترض أن أتسوّر بها حتى تهترئ وتسقط من يدي. وأنا مستعد أن أتسوّر بها اذا تسوّر المتظاهرون بعشرة آلاف اسورة مطاطية باسماء الاسرى والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية. وحمل متظاهر لافتة تقول: laquo;أنان اذهب وخذ كارتر معكraquo;.

وسط صخب التظاهرة اليهودية رأيت رجلين انتحيا ركناً بهدوء وقد احيطا بصور وشموع ولافتات تطالب باطلاق زعيمة المعارضة في ميانمار اونغ سانغ سوتشي.

نيويورك عجيبة؟ فهي في بعضها تتقدم العالم الأول، فلو قسم هذا العالم مثل فرق كرة القدم لما كانت في الدرجة الأولى فقط، وانما في الدوري الممتاز، بما لها من قيادة في دنيا المال والاعمال والثقافة والمسارح والمتاحف والمعارض والميديا وغيرها. إلا انها في بعضها الآخر عالم ثالث، أو فريق درجة ثالثة، فالمهاجرون اليها من العالم الثالث لم يصعدوا في الدوري الى الأول أو الممتاز، وانما جاؤوا معهم بعالمهم الثالث وبقوا فيه. وحتى من دون المهاجرين، فالطريق من المطار الى مانهاتن، تشهد تصليحاً واسع النطاق مع بناء شارع معلق، والعمل جارٍ منذ سنوات، وهناك تكسير وخراب وهدم وكتل اسمنت وحديد، فكأنني في بيروت بعد الحرب الأهلية، أو في لبنان بعد حرب اسرائيل الأخيرة على بنيته التحتية.

أو ربما أنا في القاهرة فزحام السير في المدينتين اللتين لا تنامان واحد، وميزته فيهما أن الضوء لا يكاد يتحول الى اخضر حتى تطلق السيارة الثانية الزمور استعجالاً للأولى. ولا أعرف لماذا يفترضون في نيويورك والقاهرة (والرياض وغيرها) أن سائق السيارة الأولى ضرير، أو نام على المقود.

هل يريد القارئ وجه شبه آخر بين هذه المدن؟ أشعر في نيويورك، كما أشعر في بيروت والقاهرة والرياض بأن لغتي الانكليزية أفضل كثيراً من لغة أهل البلد، وبما أنني اعرف نيويورك منذ الستينات، أي قبل أن يولد نصف أهلها، فإنني اذكر يوماً كان فيه السائق أبيض أو أسود محلياً. والآن بت اعتقد بأن آخر سائق من هؤلاء تقاعد في اواخر السبعينات.

الزحام في نيويورك، سيارات وبشراً، شديد كل أيام السنة، وهو أسوأ ما يكون مع عقد الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي المنطقة المحيطة بمقر المنظمة الدولية، حيث رأيت اعداداً من رجال الشرطة بأنواعها ما يزيد أحياناً على أهل المدينة والضيوف.

حماية كبار الضيوف تتطلب جهداً استثنائياً مع اعداد كبيرة، وبلدية نيويورك تغلبت أحياناً على هوليوود، وقد رأيت شوارع مغلقة أمام فنادق وسيارات دفع رباعي سودٍ تقف بالعرض، وأمامها مسلحون يحمل الواحد منهم رشاشاً ضخماً فوهته الى الأرض، والاصبع على الزناد، وينظرون حولهم بارتياب سينمائي، فيما المارة يلتقطون الصور لهم، ويحاولون أن يجمعهم بعضها بالمسلحين.

اكتفي بمشاهدات، ففي قاعة المندوبين داخل مقر الأمم المتحدة التي أعرفها على امتداد ثلاثة عقود دخلت التواليت مع رئيس دولة (بلاش اسماء) ولم أكن أعرف أن رؤساء الدول يذهبون الى التواليت مثلنا. ووجدت أن الرجل عندما يقف أمام الحائط هناك لا يعود رئيس دولة، ففي التواليت المساواة الحقيقية.

غادرت نيويورك باليسر الذي دخلتها به، ومع احتفال اليهود برأس السنة العبرية، روش هاشاناه. وهو تزامن هذه السنة مع بدء صوم رمضان الكريم. وما أريد أن احتفل به شخصياً هو السلام سنة بعد سنة بعد سنة.