أدمون صعب


quot;لقد القينا بالطفل (الحريات العامة) مع مياه الاستحمام. وعلينا الآن استعادة الطفلquot;.

كريت غازنجا ndash; غونشورن
(أحد موظفي خارجية تايلند الكبار في الحكومة الانقلابية)

كان في ظننا اننا اذا قطعنا المتوسط والاطلسي والهادئ في رحلة تقرب من ثلثي الدوران حول الكرة الارضية ذهاباً واياباً، بعيداً عن ازمتنا التي تركناها معلّقة بين اعتصام رياض الصلح ومتراس السرايا ndash; كان في ظننا ان هذا الابتعاد قد يمنحنا الفرصة لنأمل في بعض الهدوء في النفوس والتعقّل في الرؤوس، فنعود لنجد الخيم قد ازيلت والسرايا تزدحم بالمتحاورين من كل الفئات والاحزاب والهيئات المدنية والشعبية، فيما الحياة تعود الى طبيعتها في الوسط التجاري مانحة اللبنانيين املاً في سنة جديدة تنسيهم ويلات السنتين الفائتتين وفواجعهما.

الا ان هذا الظنّ بقي امنية، بل حلم حملناه في حقائبنا نتساءل من خلاله أنّى نزلنا وتجولنا في الشوارع وركبنا الحافلات وتفرسنا في وجوه الناس: ماذا دهانا نحن اللبنانيين؟ ولماذا لا يكون لنا مثل الازدهار الذي تنعم به بقية الدول؟ وماذا تراه ينقصنا؟ العلم؟ الثقافة؟ الطموح؟ المعرفة؟

واين العيب في حياتنا وحياة شعبنا الذي لم يعرف الهدوء والطمأنينة منذ اكثر من قرن ونصف قرن، وقد ذاق في كل تلك الحقبة ما لم يشهده شعب في العالم. فمن مذابح 1860 الى اضطهادات الدولة العثمانية وحلفائها اهل جبل لبنان في الحرب العالمية الاولى وسوقها زهرة شبابهم الى quot;سفر برلكquot;، واستيلائها على المحاصيل الزراعية وتجويعها المواطنين الذين كانوا يقتاتون بحبوب الشعير التي كانوا ينقبون عنها في روث بغال العسكر العثماني الذي صادر الحبوب التي طحن لها الجبليون الصخور وسقوها بعرق الجبين لتكون قوتاً لعيالهم، فإذا بها تقدم الى زرائب السلاطين واسطبلاتهم. ثم تأتي الملاريا فتحصد من اللبنانيين ثلثهم. وكثيراً ما تعذّر دفن الضحايا التي كانت تتساقط على جوانب الطرق دون مسعف، فتفيض ارواحها من الجوع والعطش والمرض.

واذ أُمل الشعب مع تكبير الوطن الصغير عام 1920 في ظل الانتداب الفرنسي، بأن تتحسن احواله ويستعيد عافيته بعد الشقاء الذي عاناه، فإن الاستقلال الذي ناله عام 1943 لم يلبث ان وقع تحت وطأة الحرب الفلسطينية ndash; اليهودية بعد خمس سنوات، وتداعياتها العربية.

وثمة باحثون ومؤرخون يرون ان تكبير لبنان الذي كان فكرة مسيحية، ومارونية في الدرجة الاولى، نشأت مع اهل الجبل الذين اعتصموا في كهوفه ووديانه، انطلاقاً من وادي قنوبين المقدس قرب المحابس والمناسك قريباً من الرهبان والفلاحين والرعاة والنساك - كان فكرة خاطئة نظراً الى عدم وجود جماعات انسانية اخرى مشابهة لهم في الدين والاتنية والنظرة الى الحياة للانتماء اليها ليكوّنوا معاً متحداً اجتماعياً ndash; سياسياً، بخلاف الجماعات الاتنية والدينية الاخرى.

والواقع ان ما شهده لبنان منذ احداث 1975 والدور الفلسطيني في زعزعة اركان الدولة التي اقام اسسها المسيحيون في الجبل وضمنتها القوى العظمى عام 1864، وانضمام فريق من الشركاء في هذه الدولة لاقامة دولة فلسطينية بديلة في لبنان، هو ما جعل الكنيسة المارونية تقدم الغطاء لاتفاق الطائف عام 1989 وتقبل السير بنظام جديد يتنازل فيه الموارنة عن quot;امتيازاتquot; اساسية في مقابل صيغة تضامنية بين الطوائف الرئيسية المؤسسة للكيان تتشارك من خلالها مجتمعة في صوغ القرار السياسي في مجلس الوزراء على اساس توافقي.

وعبارة quot;الصيغة التضامنيةquot; تعني ببساطة الا يتفرّد اي طرف في القرار، اياً تكن طبيعته، والا يتواطأ طرف مع طرف آخر ضد الطرف الثالث في القرار او المصلحة، او توزّع المناصب والمغانم. وقد حفلت ممارسة اهل الطائف، بل سادت ممارساتهم، ويا للاسف الشديد، التواطؤات بما عرف حيناً بـquot;الترويكاquot; حيث تلاقت مصالح الحكام ضد مصالح المحكومين، واحياناً بـquot;الدويكاquot; حين كانت مصالح رأسين في السلطة تتلاقى ضد مصلحة الرأس الثالث ومن يمثل، وخصوصاً بعدما جرى تهميش الدور المسيحي.

ولقد كان مفترضاً أن يؤدي تكبير لبنان والاستقلال الذي أعطيه عام 1943 اثر تكليف فرنسا تأهيل الادارة اللبنانية لممارسة السيادة بعد هذا التاريخ، ان تنحو الجماعات الاتنية والطائفية منحى اندماجياً اطاره العيش المشترك ووحدة الحياة مما يؤدي، قبل نهاية القرن ndash; وفترة نصف قرن كان كافياً لهذا الاندماج - الى قيام شخصية وطنية وتوليد ارادة وطنية كذلك تعبر بالذات المركّبة الى الذات الموحدة، الاصيلة والمتماسكة التي تجد تعبيرها الواضح في وطن علماني، حر يكرس دستوره احترام الديانات والعبادات، حائلاً دون تدخلها في القرار الوطني، وجاعلاً طاقة الطوائف عامل تقوية للحمة الاجتماعية والانسانية.

من هذا المنظار يتطلع لبنانيو quot;الدياسبوراquot; او بلاد الانتشار الذين يجدون ان تراكم الاحداث والتطورات منذ عام 1958، جعلت حركة الاستقطاب لديهم، وخصوصاً بعد احداث 1975 واجتياح 1982، ثم حرب تموز السنة الفائتة، تنحو من الداخل نحو الخارج، اي في اتجاه البحث عن اوطان بديلة، وهويات بديلة.

واحسنت بكركي الاربعاء 12 كانون الاول الماضي عندما ذكّرت بالثوابت التي قام عليها كيان جبل لبنان وفي مقدمها quot;الحرية، من فكرية واجتماعية وسياسية، وقد اعتصم الموارنة في جبال لبنان حفاظاً عليها وقد صارت عندهم كنز الكنوزquot;، ثم quot;مشاركة الآخرين في السراء والضراء، وقد ناضلوا معاً على ارض لبنان، من سائر الاديان والطوائف، واسسوا معاً كياناً واحداً في جو من المساواة بين الجميع والكرامة المحفوظة للجميع (...) في عيش قائم على الاعتراف المتبادل وعلى وحدة المصير، والتكامل بين العائلات الروحية التي تؤلف النسيج الوطني الواحدquot;، وquot;المشاركة المتوازنة في الحياة الوطنية والقرارات المصيرية، وفي ادارة شؤون الوطن، وفي بناء مشروع الدولة وتنميته وتطويرهquot;، وquot;تصحيح الشوائب التي ظهرت في تطبيق اتفاق الطائف في ضوء الممارسةquot;.

وهذا يعني اعادة الاعتبار الى الرئاسة الاولى كمرجعية وطنية وعدم الغائها لحساب مرجعيات خارجية سورية وعربية وايرانية ودولية، اقتصاصاً من الموارنة بسبب اخطاء الرؤساء الذين انتسبوا اليهم. ولطالما كان الموارنة المرجع الوطني على الدوام.
ولا يغيب عن بال المغتربين الذين ينظرون بقلق الى تعاظم نفوذ الايرانيين والاصوليين، وفي مقدمهم مجاهدو quot;القاعدةquot; الارهابيون وما يشكله هؤلاء من خطر على لبنان وعلى المسيحيين خصوصا وفي الشرق عموما - ان العولمة جعلت الاهتمام بدول صغيرة كلبنان ورواندا وتيمور الشرقية محكوما بأربعة اعتبارات هي: القرب الجغرافي، الانتساب الديني، الانتساب العرقي، الاستراتيجيات والمصالح السياسية والاقتصادية.

من هنا عدم استغرابهم وجود نفوذ شيعي ايراني على شيعة لبنان، وسني سعودي ndash; مصري ndash; أردني الخ... على سنته دون أن يكون هناك أي نفوذ خارجي على مسيحييه الذين باتوا يخشون أن يقع وطنهم ضحية التجاذب بين quot;تيارات متناقضة ومحاور اقليمية متناحرةquot;.

وهي إذ اقترحت مخرجا من المأزق بتأليف حكومة مستقلين واقرار قانون جديد للانتخاب، فانها طرحت اعادة المغتربين الى حضن الوطن من طريق quot;إشراكهم في الانتخاب بغية اعطائهم جزءا من حقوقهم، وترسيخ علاقتهم بوطنهم الأم...quot; على ان يتم ذلك في شكل متواز مع استعادة الشيعة ايضا الى حضن الوطن بعدما عبر لبنان خطر quot;الصوملةquot; في حرب تموز.

ان ما تطرحه الكنيسة المارونية التي تحولت مرجعية وطنية، هو تصحيح الطائف باعادة الاعتبار الى مرجعية رئاسة الجمهورية والكف عن توظيف الطوائف لحساب الخارج، أي خارج، والنظر الى تداعيات الحرب الأخيرة بواقعية تفرضها quot;الديموقراطية التوافقية التي كرسها الدستور حفاظا على جميع مكونات المجتمع اللبناني التعددي، وإفساحا في المجال لها جميعا لأن تشارك مشاركة متوازنة في الحياة الوطنية والقرارات المصيريةquot; وصون التلاحم الوطني.
فهل من يفكر بغير مصالحه ومصالح طائفته؟