غسان الإمام

العاصمة، أية عاصمة، هي رمز الوحدة الوطنية. مصدر السلطة. مركز الإدارة. منارة الاشعاع الثقافي. بوتقة الصهر اللغوي. مرآة لبؤس الاقتصاد او ازدهاره. حضن دافئ للتساكن والتعايش الديني والمذهبي والعرقي في سلام ووئام.

هكذا كانت بغداد منذ تعريب العراق بالفتح الاسلامي. بغداد مدينة عربية. مدينة شهدت ازهى وامجد عصور الحضارة والثقافة العربية، منذ ان انشأها العباسيون في وسط العراق، هربا من الشقاق وكآبة البكائيات في مدن الجنوب.

بغداد مدينة السلام تعرضت في تاريخها الطويل لغزوات اجنبية مدمرة هددت هويتها العربية، منذ غزوة طاهر بن الحسين (اسم حركي مستعار لاسم فارسي) الى غزوة هولاكو المغولية... وها هي اليوم تتعرض لغزوة جديدة هدفها محو هويتها العربية. مَهَّدَ الاحتلال الاميركي للغزوة الاستئصالية، لكن الذين يديرونها وينفذونها هم، مع الأسى والأسف، من ابناء العراق، وبلغة صريحة وأمينة، هم من شيعة العراق.

بوصول القوات الاميركية الإضافية على دفعات خلال الاسابيع القليلة المقبلة، تدخل معركة بغداد مرحلة حاسمة. المعركة بدأت منذ اسابيع عندما راحت الميليشيات الشيعية، وفي مقدمتها ميليشيا الصدر تنهج نهجا مكشوفا في عملياتها الميدانية، عامدة الى تهجير منظم ومبرمج لسكان بغداد السنة، ودفعهم الى صحراء محافظة الأنبار. تم الى الآن تهجير نصف مليون انسان من سكان بغداد السنية. افرغت احياء كاملة من سكانها، بلغة الترويع من تهديد وقتل وخطف وتعذيب. جلبت عوائل شيعية من الجنوب ومدينة الصدر المجاورة، واسكنت في المنازل والاحياء المهجورة. جرى كل ذلك تحت سمع وبصر قوات الشرطة التي ثبت، بشهادة مدربيها الاميركيين، اختراق الميليشيات لها، بل ومشاركة هذه القوات في حملة التهجير والاستئصال.

ليس صحيحا ادعاء الاعلام الغربي ان العراق دولة مفبركة من صنع الانجليز بعد الحرب العالمية الاولى. العراق كيان تاريخي، حتى قبل الفتح العربي. كيان شكلته وارسته اقوام ساميّة مهاجرة من جزيرة العرب، وانشأت فيه دولا وحضارات. ثم ساعد وجود المناذرة على تعريبه بعد اسلامه. في العصر الحديث، اعيدت صياغة العراق دولة عربية (1921). شكل الضباط والساسة العراقيون الذين شاركوا في الثورة على الامبراطورية العثمانية وتحرير سورية في صنع العراق وتثبيت هويته القومية.

ليس صحيحا ادعاء الاعلام الغربي أن سنة العراق هم وحدهم عربه. شيعة العراق عرب ماضيا وحاضرا. قلت ذلك سابقا، وأضيف أن شيعة العراق شاركوا، بشكل وآخر، في تعريب العراق تاريخيا، وفي حكمه حديثا مع أشقائهم السنة. بل شكلت شبيبة الشيعة القاعدة الحركية للأحزاب والتنظيمات القومية واليسارية، وفي مقدمتها حزب البعث ذاته، قبل أن تنجح المرجعيات الدينية في سحب الجيل الشيعي الجديد، وتطويعه لخدمة المشروع المذهبي.

منح غباء الغزو الأميركي إيران الخمينية فرصة ثمينة، لدفع أحزاب الشيعة العراقية وميليشياتها التي آوتها ودربتها وموّلتها وأشبعتها بثقافة طائفية خالصة، إلى العودة الى العراق. تحت شعار الديمقراطية، شاركت أميركا هذه الأحزاب المشبوهة في صياغة دستور تقسيمي وانفصالي تحت شعار الفيدرالية وسلمتها حكم العراق.

عندما تمكنت هذه الأحزاب من الحكم واستأثرت بالسلطة بدأت تتمرد على الاميركيين. كنت أحسب ان استبدال الجعفري بالمالكي سيخفف من حدة المشروع المذهبي. اخطأت التقدير. جاءت حكومة المالكي تحت شعار الوحدة الوطنية والمصالحة والديمقراطية، غير أن الرجلين كانا وما زالا من نسيج المشروع وأدواته.

لعب المالكي الذي يتزعم حزب الدعوة، على عامل الوقت في مخادعة السنة والأميركيين، لتغطية المضيِّ في المشروع المذهبي لتشييع العراق دولة وسلطة، بدءاً بالاستيلاء على بغداد.

يكاد عام يمضي على حكم المالكي. لم يَفِ بكل التعهدات والالتزامات التي وعد بها. لم تتحقق المصالحة. طالب الأميركيين بتسليمه السلطة الأمنية. تعهد بتقديم القوات اللازمة لتثبيت أمن بغداد. القوة التي قدمها لم تصل الى العدد المطلوب، بل كانت مخترقة بميليشيات الحكيم والصدر، وساهمت في عمليات الاستئصال والتطهير.

في معركة بغداد، استبق المالكي مبادرة بوش بالاعلان عن مبادرة أمنية تضليلية. عندما علم أن الأميركيين سيعتمدون الجيش العراقي، بدلا من الشرطة المخترقة، عمد الى إنشاء منصب laquo;رئيس الأركانraquo; وجعله مسؤولا أمامه مباشرة، لربط الجيش به وبالمشروع المذهبي.

في هاجسه المتخوف من الأميركيين، أدى المالكي دورا محوريا في الاسراع بإعدام صدام. سمح لغوغاء الصدر بالمشاركة في laquo;حفلraquo; الاعدام الذي أزرى بالدولة، وفضحها أمام العرب والعالم كله. حصل المالكي على فتوى السيستاني ومراجع الشيعة في النجف بجواز القتل في عيد الأضحى. ها هو اليوم يستخدم السيستاني والمراجع ذاتها في إقناع حليفه الصدر بـ laquo;لملمةraquo; تجاوزات ميليشياه، قبل استكمال الحشد الأميركي في بغداد.

ما زلت في الحديث عن معركة بغداد. المالكي والأحزاب الشيعية الحاكمة تريد من القوات الأميركية مشاركة قواته في laquo;تطهيرraquo; الأحياء السنية، لكنه يصر على أن تتولى قواته وحدها laquo;إخضاعraquo; الأحياء الشيعية التي تسيطر عليها ميليشيا الصدر!

يبدو أن ساعة الحقيقة قد اقتربت. مبادرة بوش الجديدة لاستعادة بغداد من ميليشيات الشيعة ومن تسلل إرهابيي laquo;القاعدةraquo; تضع المالكي وجهاً لوجه أمام المحك: إما إيران وإما العراق. إما الوحدة الوطنية والمصالحة ومشاركة السنة في القرار، وإما المضي في المشروع المذهبي. إما الأمن وإما الصدر. التهَمَ الفساد والتبذير مشروع الإعمار الأميركي الذي بلغت تكاليفه منذ الغزو 30 مليار دولار. المشاريع التي أمكن تنفيذها تم توجيهها بتدبير حكومة المالكي الى مناطق الشيعة، حارما المناطق السنية من الخدمات الضرورية. المشكلة تكمن في غموض المبادرة الاميركية. سنة العراق والنظام العربي يؤيدان ضمنا مبادرة بوش لاستعادة بغداد، لكن ما هو الغرض السياسي للمبادرة؟ تغيير المالكي وإقصاء الأحزاب الطائفية والميليشيات عن الحكم والسلطة والأمن؟ تحييد التدخل الإيراني؟ مصالحة السنة؟

لا أمل للعرب ولسنة العراق في أميركا واعية لأهمية حماية عروبة العراق، وجعل الهوية القومية أساسا لمواجهة المد الشعوبي الفارسي في الوطن العربي. تأخر الأميركيون كثيرا. بل ما زال بوش يتحدث خلال تقديم مبادرته عن إنقاذ laquo;الديمقراطية الشابةraquo; في العراق! أية ديمقراطية، فيما الأحزاب والميليشيات الحاكمة والمتسلطة لا تؤمن أصلا بالديمقراطية والحرية، ولا تعرف شيئا عن كيفية ممارستهما، لم يتمكن الشيعة من تشكيل طبقة سياسية للحكم والإدارة جديرة بالثقة.

لماذا سكت الأميركيون طويلا عن التورط الايراني في العراق؟ بوش يهدد بتدمير شبكات التدخل. تم اعتقال عدد من ضباط المخابرات والحرس الايراني. الفضيحة أن هؤلاء يشاركون في معركة بغداد، من أوكار في مقار الأحزاب الشيعية الحاكمة! في عملية المداهمة والاعتقال، حصلت ادارة بوش على مستمسكات تؤكد ضغط إيران على الأحزاب الشيعية لعدم مصالحة السنة.

نعم، تأخر الاميركيون كثيرا. أخطأوا منذ البداية. لم يفعلوا ما فعلوا في ألمانيا واليابان. كان الأجدى بعد إسقاط نظام صدام تشكيل حكومة عراقية محايدة، وليس تسليم الحكم لأحزاب طائفية، حكومة محايدة من الساسة، وليس من رجال خاضعين لعمائم الطائفة. كان هذا هو السبيل لصياغة دستور وطني يكون أساسا لإعادة صياغة عراق ديمقراطي يحمي الحريات الأساسية للشيعة والسنة والأكراد والمسيحيين.