فيليب ستيفنز - الفايننشال تايمز

عندما يصرخ جون بولتون بأن شيئاً ما يجري خطأ، فإنني أنزع إلى الابتهاج. وفي الأسابيع الأخيرة، عنف المندوب الاميركي السابق لدى الامم المتحدة البيت الابيض بسبب وضع توقيعه على توافق سداسي الأطراف يجمد برنامج الاسلحة النووية الكورية الشمالية. ويبدو أن ادارة جورج دبليو بوش قد بدأت في فهم بعض الأمور بالشكل الصحيح.

لكن الاتفاق الذي توسطت فيه الصين والذي تم التفاوض عليه بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية يمكن ان ينهار. ذلك ان التاريخ يحذر من استثمار الكثير من الثقة في التزام الزعيم الكوري الشمالي كيم يونغ إيل بكلمته. ذلك أن تجميد نشاطات بيونغ يانغ النووية مقابل امدادها بنفط الوقود لا يضمن تسوية دائمة.

لاحظ المتشائمون (والذين أعترف بأنهم قد يكونون واقعيين في النهاية) وجود تشابهات مدهشة مع الترتيبات التي كان قد تم التفاوض عليها من قبل ادارة الرئيس بيل كلينتون في عام 1994. فقد وعدت تلك الترتيبات ايضا بوقف البرنامج النووي في مقابل تقديم مساعدات الطاقة. وقد انهارت الصفقة في نهاية المطاف وسط ظهور دليل على ان بيونغ يانغ بنت مرفقا لانتاج البلوتونيوم بشكل غير مشروع.

لكن ثمة اختلافا مهما. ففي هذه المرة، ثبتت احكام التجميد مقابل المساعدات الأولية ضمن سياق استراتيجي عريض، وتأتي الابعاد الاقليمية والسياسية والدبلوماسية للاتفاق الأخير لتكون هي ما يهم حقيقة. ذلك أن الخطوات الحذرة المخططة للايام الستين التالية قد احتسبت بحيث تمهد الطريق امام تطبيع تام للعلاقات. والى جانب تكريس تفاهم بين واشنطن وبيونغ يانغ، تتطلع هذه الخطوات اللاحقة الى فك الجمود بين كوريا الشمالية واليابان، والتوصل الى معاهدة سلام لانهاء الحرب الكورية رسميا، ووضع ترتيبات أمنية دائمة للمنطقة. وبكلمات أخرى، فقد أفسح التفاوض احادي البعد حول الاسلحة المجال أمام بذل جهود أخرى لتأسيس سلسلة من العلاقات الاقليمية المتبادلة المستقرة.

ثمة فوائد كبيرة ستنجم هنا. ولعل من أوضحها أن نزع السلاح النووي الكوري الشمالي سيخفض من الضغوطات التي كان التوتر يمارسها على لاعبين اقليميين آخرين لحيازة قنبلة نووية. وبهذا فإنه سيؤدي الى استعادة القليل من الصدقية الى نظام عدم الانتشار النووي الذي يواجه المشاكل. كما أن من المحتمل ان يقدم رافدا لتطبيق حلول تعددية فعالة لأزمات في امكنة اخرى من العالم. وفي الحال تخطر ايران على البال.

كل هذا يشكل، بالطبع، شيئاً بغيضاً بالنسبة للسيد بولتون، والذي وصف الاتفاقية بانها تمثيلية تحزيرية. وقال إن الولايات المتحدة إنما تشجع بتقديمها تنازلات لبيونغ يانغ دولا نووية أخرى محتملة. وبعبارات أخرى، فان الرئيس بوش قد اذعن للتهديدات. وسيلحظ الملالي في طهران ذلك.

على أحد المستويات، يبدو السيد بولتون محقاً. اذ ان شروط الصفقة الأخيرة كانت لتكون في متناول واشنطن قبل ثلاث او اربع سنوات تقريباً؛ اي عند نفس الوقت الذي وسمت فيه كوريا الشمالية والعراق وايران بانها تشكل محور الشر. والآن، تبدو تلك العبارة وقد اختفت من قاموس البيت الابيض مثلما اختفت عبارة تغيير النظام. وعليه، فان الولايات المتحدة قد غيرت موقفها حقيقة. ولا شك في أنها قد تأثرت بتفجير بيونغ يانغ في الخريف الماضي لأداة نووية أولى.

ومن جهتها، فان نوعية دبلوماسية السيد بولتون تبدأ وتنتهي بالاعتماد على الإكراه. وهي تقول بان على اميركا ان تستخدم قوتها التي لا نظير لها لتطويع الآخرين لارادتها. أما المفاوضات فهي للضعفاء. وتستطيع الولايات المتحدة ان تحقق غاياتها عبر نشر قوتها الاقتصادية والمالية والعسكرية. فلماذا التنازل؟

لقد كانت لقرار غزو العراق جذوره في هذه العقلية. فقد كان يفترض في الاثر quot;الاستعراضيquot; لتغيير النظام في العراق، كما قدرت الحسابات، أن يجبر الدول المارقة على الامتثال. وللإنصاف، فان باستطاعة السيد بولتون ان ينسب لنفسه تحقيق انتصار واحد يعتد به بهذا الخصوص؛ وهو ان ليبيا قد تنازلت فعلاً عن الاسلحة غير التقليدية.

ومع ذلك، فقد كان التحليل متصدعا منذ بدايته. اذ ان احادية السيد بولتون كانت محكومة دائماً بقدر دعوة الاخرين للتصدي للقوة الاميركية ولمحاولة موازنة التفوق الاميركي مع تصاعد معاداة الامركة. وكما اتضحت عليه الأمور، فقد اثبتت الرسالة من العراق بانها مختلفة عن تلك التي تكونت في المخيلة عندما اعلن السيد بولتون واخرون عن تحقيق الانتصار في بداية صيف عام 2003. ومنذ ذلك الحين، اضعفت الحرب القوة الاميركية بدلا من أن تكون استعراضاً لها.

في هذا الخصوص، يأتي قرار ادارة الرئيس بوش التفاوض مع كوريا الشمالية ليعكس الواقع الجيوسياسي، حيث تظل الولايات المتحدة القوة التي لا يمكن الاستغناء عنها في الشؤون الكونية. لكن الفوضى الدموية في العراق تذكرنا دائما بان التفوق ليس هو نفس quot;القدرة الكليةquot;. وهنا تكمن الحقيقة الاستراتيجية الجوهرية، وهي أن واشنطن اذا ما ارادت ان تسوي الامور في العالم، فإن عليها ان تتفق مع الاخرين.

في حالة كوريا الشمالية، كان اهم لاعب هو الصين، رغم ان شمول روسيا واليابان وكوريا الجنوبية كان مهماً بدوره. وربما كان غضب بكين، سوية مع انذار واشنطن بسبب تجربة بيونغ يانغ عاملا حاسما. وبينما تبقي الصين على نظام السيد كيم عائماً وتحميه من الغرق، لكن quot;الزعيم العزيزquot; الذي أدار نفسه على هواه بدا مصمماً على الافلات من عقال بكين، وقد يعمد الى تكرار ذلك مستقبلا.

من أجل كل هذه الأمور التي تتسم بعدم اليقين، فإن الصفقة الأخيرة تحمل درسا مهماً يتصل بمواجهة واشنطن المحمومة مع ايران. ومن الممكن، بالطبع، وكما يقول السيد بولتون، ان تعمد طهران الى التوصل الى النتيجة القائلة بان الطريقة المناسبة لتقوية مركزها التفاوضي هي تسريع وتيرة برنامجها النووي. وفي تلك الحالة، لن يكون هناك الكثير مما تستطيع واشنطن فعله. ولكل ذلك، فان الاتفاق السداسي الأطراف مع كوريا الشمالية يقدم خريطة طريق بديلة للتعامل مع ايران.

إن التحركات الاخيرة للادارة الاميركية quot;للدفع ضدquot; التدخل الايراني في العراق ودعمها حزب الله في لبنان قد نُظر إليها على نطاق واسع بانها مقدمة لشن هجوم على مرافق ايران النووية. وأنا اعتقد بان هذا التفسير خاطئ. ولعل الأمر الأكثر ترجيحاً هو ان الادارة الاميركية تحاول ان تبين لحليفاتها في المنطقة ان المستنقع العراقي لم يدمر قدرتها على استعراض القوة الاميركية. وهي تريد ايضا ان تبدي لطهران ان ثمة ثمنا لجهودها الرامية الى نزع فتيل الاستقرار. وفي الغضون، قد تبدو اسرائيل متحفزة لمهاجمة ايران، لكنني المس في صفوف المسؤولين الاميركيين تصميما على ممارسة ضبط النفس. ولعل تكلفة شن هجوم ستكون، ببساطة، عالية جدا والمكاسب غير أكيدة.

ربما تتغير تلك الحسابات. لكن الولايات المتحدة تستطيع ايضا ان تسعى إلى تطبيق المبادئ التي كانت قد تبنتها في مفاوضاتها مع بيونغ يانغ. وفي بعض الحالات إجراء تنسيق وثيق مع الاتحاد الاوروبي ومع الصين وروسيا. وهو ما مالت في اتجاهه أصلاً. لكن الإلهام الأساسي هو ان اي حل يتعلق بالموضوع النووي يمكن إنجازه فقط كجزء من صفقة استراتيجية أكثر شمولية وأوسع بكثير. وسيبقى ذلك الدرس ماثلاً في ذهني، مهما سيكون سلوك الزعيم العزيز لكوريا الشمالية في الاشهر المقبلة.