ماثيو بوجدانوس - نيويورك تايمز


مع ازدياد الوضع في العراق سوءاً يوماً بعد يوم، يزداد إحجام الأميركيين عن التضحية بدمائهم من أجل إنقاذ حياة العراقيين. وفي ظروف مثل هذه يغدو من الصعب تسويق فكرة تتعلق بأهمية الاعتناء بمجموعة من الأحجار العتيقة المدون عليها كتابات غريبة الشكل، هي ما مما يسمى عادة بـquot;الآثارquot;.

ولكن كيف سيكون موقف الأميركيين إذا ما عرفوا أن نهب المواقع الأثرية العراقية سيئة الحراسة، والتي يبلغ عددها 10 آلاف موقع، لن يحرم الأجيال المقبلة من آثار وتحف فنية لا نظير لها فقط ولكنه يستخدم أيضاً كوسيلة لتمويل المتمردين الذين يقاتلون قواتهم؟ ونظراً إلى أنني كنت رئيساً للفريق الأميركي الذي أنيطت به مهمة التحقيق في عملية نهب المتحف الوطني العراقي عام 2003، فإنني أعرف أن هناك تحفاً أثرية تبلغ قيمتها ملايين الدولارات، يتم تهريبها من البلد سنوياً، وأنه سيكون من قبيل السذاجة أن نعتقد أن المتمردين لا يحصلون على نصيب كبير من عائد بيع تلك الآثار المنهوبة.
وهناك سؤال آخر أيضاً هو: ماذا سيكون موقف الأميركيين إذا ما أدركوا أن فشلنا في تقدير الأهمية التي ينظر بها العراقيون إلى آثارهم، كان سبباً من الأسباب التي أدت إلى زيادة منسوب الفوضى التي تواجهها قواتنا في العراق؟ فبعد مضي أربع سنوات على حدوث النهب الأول، وعلى رغم أننا استعدنا حوالى 6 آلاف قطعة أثرية من مجموع 10 آلاف، فإننا نظل غير قادرين على متابعة القطع الأثرية التي تتم سرقتها كل يوم. وهذا الفشل المستمر في حماية التراث الفني لحضارات تعود إلى فجر البشرية أقنع الكثيرين، في العراق وفي الشرق الأوسط، بأننا قوم لا نهتم بأية ثقافة أخرى غير ثقافتنا.

بيد أنه يلزم التأكيد في هذا السياق على أن الفشل في حماية الآثار العراقية لا تقع مسؤوليته على الولايات المتحدة وحدها. ولتوضيح ذلك نقول إنه في حين أن الأمم المتحدة وquot;الناتوquot; قد توليا زمام توفير الأمن للآثار والمعالم الثقافية في فترة ما بعد الحرب في كل من البوسنة وقبرص وغيرها من الأماكن، إلا أن المجهود الذي قاما به في العراق في هذا الصدد لم يكن على المستوى المأمول. فعلى رغم أن quot;الناتوquot; افتتح مركزاً تدريبياً لضباط الأمن خارج بغداد عام 2005، إلا أن العراقيين الذين تخرجوا من دوراته التدريبية لم تتم تعيينهم لحراسة المواقع الأثرية! أما الأمم المتحدة فتبرر قصورها بالقول إنها لا تمتلك تفويضاً بتدريب الحراس، علاوة على أن منسوب العنف في العراق لا يسمح لها بالانغماس في نشاط مثل هذا.

يقودنا هذا إلى التساؤل عن الجهة التي يمكنها الاضطلاع بهذا النشاط.. في الماضي، كانت الحفريات الأثرية في العراق تتم تحت رعاية بعثات أجنبية: فالألمان كانوا يشرفون على الحفريات في quot;بابل وأوروكquot;، والبريطانيون في quot;أور والنمرودquot;، والفرنسيون في quot;كيش، ولكشquot; والإيطاليون في quot;الحضرquot; والأميركيون في quot;نيبورquot;. وإذا ما أخذنا ذلك في الاعتبار فسيكون من المعقول أن نقول إن كل دولة يجب أن تضطلع بالإشراف على المواقع الكائنة في المنطقة التي كانت تتولى الحفر والتنقيب فيها.

ويفترض في حالة موافقة تلك الدول على ذلك، أن تتعهد كل دولة بتوفير الحراس في نطاق المنطقة الأثرية التي تعمل بها على أن يكون ذلك على مدار الساعة (سيستدعي هذا بالطبع الحصول على إذن من الحكومة العراقية وعلى مساعدة من القوات الأميركية).

ويا حبذا لو تولت القوات الأجنبية التي ستوفرها تلك الدول تدريب عدد من المجندين العراقيين على أعمال الحراسة والمراقبة للمواقع الأثرية.. وبعد أن يصبح هؤلاء العراقيون بعد مدة، قادرين على الاضطلاع بمهمة حراسة المواقع بمفردهم فإنه يمكن للدول الأجنبية حينئذ أن تستدعي أطقم الحراسة التابعة لها.

ومن ضمن العقبات التي تحول دون تنفيذ هذا المقترح، تلك الصعوبة التي وجدناها في محاولة إقناع الدول الغربية، بأن توفير الحراسة المنظمة للمواقع الأثرية من خلال رجال حراسة تابعين لها لن ينظر إليه على أنه بمثابة إعلان من هذه الدول عن تأييدها للحرب على العراق. غير أنه لن يكون من الصعوبة بمكان بالنسبة لنا أن نقنع تلك الدول بأن هذه المهمة هي مهمة إنسانية في المقام الأول، وأن هدفها هو المحافظة على تراث إنساني لا يقدر بثمن ينتمي لحضارات وجدت قبل أن تنشأ الخلافات والانشقاقات الحالية بين الأكراد والعرب وبين الشيعة والسُّنة.

والدرس الذي يمكن للولايات المتحدة أن تخرج به من هذه التجربة هو أنها يجب ألا تسمح أبداً تحت أي ظرف من الظروف لنفسها بالتهاون في المعايير الأخلاقية العالية المتعلقة بالموضوعات التي تحمل قيمة ثقافية مثل موضوع المحافظة على الآثار العراقية وأن تخصص -قبل إقدامها على غزو أي دولة أخرى في المستقبل- وحدات عسكرية لحماية الممتلكات الثقافية، وأن تعمل على إخضاع جميع أفراد الوحدات التي سيتم نشرها في الخارج لتوعية ثقافية.

وليس هناك من شك في أن اقتطاع مخصصات مالية من الميزانية العسكرية في وقت الحرب وتخصيصها لنشاط آخر قد يبدو مثل اقتطاع مخصصات الشرطة ورجال الإطفاء في مدينة في حالة فوضى وتخصيصها للمكتبة العامة. وفي الحقيقة أن هذا هو تماماً ما حدث مع اقتراحي بتوسيع نطاق مهام قوات مقاومة الإرهاب بحيث تشمل التحقيق في نهب آثار المتحف العراقي عندما وصفه البعض بأنه اقتراح يؤدي إلى صرف النظر عن بؤرة الاهتمام الأميركية. ولكن هناك رجالاً من قبلنا قد رأوا الحكمة الكامنة في هذا النهج مثل quot;دوايت إيزنهاورquot; الذي ألقى خطبة قبل يوم بدء العمليات العسكرية للقوات الأميركية في الحرب العالمية الثانية قال فيها: quot;من الطبيعي أننا سنجد في طريقنا آثاراً تاريخية ومراكز ثقافية ترمز لهذا العالم الذي نحارب جميعاً من أجل المحافظة عليه، وإنني لذلك أحمِّل كل قائد مسؤولية المحافظة على تلك الرموز وحمايتها متى ما كان ذلك ممكناًquot;.