وليد شقير

من مفارقات الأزمة اللبنانية ان الكثيرين من المسؤولين الدوليين والعرب اضطروا نتيجة الحاجة الحيوية الى متابعتهم ما يجري على هذه laquo;الساحةraquo;، أن يغوصوا هم أيضاً في السجال الدائر حول التفسيرات الدستورية والقانونية المتناقضة للخلاف المصطنع حول العديد من الأمور بين الأكثرية والمعارضة في لبنان. وبات كثيرون منهم يفهمون مغزى الحديث عن حل مشكلة تمثيل المعارضة في الحكومة على أساس 19+11 كما تطالب المعارضة، أو على أساس 19+10+1 كما تقول الأكثرية. نجحت قوى المعارضة في استدراج القوى الخارجية الوسيطة، أو الساعية الى توافق اللبنانيين الى هذا النقاش البيزنطي، الى درجة دفعت المسؤولين العرب والدوليين الى التبرّم منه.

ومع هذا الغوص في التفاصيل، في اطار لعبة شدّ الحبال القائمة حول إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي في جريمة اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري ورفاقه وسائر الجرائم المرتبطة بها، فإن شيئاً واحداً لم يقبل أي من الموفدين أو المسؤولين الدوليين أو العرب ان يناقش به. فجميع من رافق هؤلاء الموفدين أو المسؤولين طرح السؤال بصيغة الاستهجان والاستنكار لنقض بديهية من البديهيات: كيف يمكن أن يحول أحد ما دون اجتماع البرلمان وهل هذا مقبول؟

وإذا كان الرئيس بري أفلح في قيادة مناورات المعارضة بدهائه وشطارته المعهودين، بعد ان سلّم له laquo;حزب اللهraquo; بهذه القيادة إثر سلسلة الاخفاقات التي وقعت فيها قيادة الحزب في التعاطي مع السياسة اللبنانية الداخلية المعقدة أكثر، قياساً الى نجاحاته المؤكدة في قيادة المعركة مع اسرائيل، فإن تعطيل البرلمان كان ثغرة في سلوك المعارضة وبري، ومخالفة لرغبة الأخير على الأقل، الأكيدة، في عدم كسر التوازنات اللبنانية الداخلية على رغم وصول المواجهات الى حافة الهاوية.

وإذا كان زعيم laquo;تيار المستقبلraquo; النائب سعد الحريري اعتبر ارسال العريضة إنذاراً أخيراً من أجل إقرار المحكمة في البرلمان، فإن بيان مجلس المطارنة الموارنة يشكل انذاراً أكبر من العريضة حين تحدث البيان عن الخطر الذي يتهدد الصيغة اللبنانية. وحذر من تعطيل المؤسسات الدستورية وإسقاط النظام وتعريض السلم الأهلي ورفض حق الفيتو لأي حزب أو مذهب أو فئة، ونبّه من تعطيل الانتخابات الرئاسية، واكد عروبة لبنان... وصولاً الى خوفه على دور المسيحيين.

سبق للكنيسة أن سلّمت باستحالة الاعتماد على الموقع المسيحي في السلطة في حل الأزمة وإقرار المحكمة، على رغم ان تسلسل الأحداث أثبت أن تمرير المحكمة لبنانياً يعتمد على موقف رئيس الجمهورية. فكل الجدال الدستوري الذي افتُعل كانت الرئاسة محوره. بل ان أقطاب الأكثرية يتخوفون من أن إقدام المعارضة على الدعوة الى جلسة نيابية لإقرار المحكمة خلال أسابيع مقبلة تفادياً لإقرارها في مجلس الأمن، قد يكون هدفه إعفاء المعارضة من هذه الكأس ووضعها في عهدة الرئاسة الأولى. فرئيس الجمهورية لن يوقّع قانون المحكمة، والدستور يعطيه مهلة شهر قبل رده لإعادة بحثه فتكون الدورة العادية الحالية انتهت فيما ستتحول الدورة المقبلة في الخريف الى جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية الذي يحتمل تعطيل انتخابه بسبب الخلاف على النصاب الدستوري. لقد بات تعطيل إقرار المحكمة متلازماً مع استمرار تعطيل الرئاسة.

ما أرادته الكنيسة من رفضها تعطيل البرلمان في بيانها هو القول إن تفادي تعطيل الرئيس المسيحي لإقرار المحكمة، بالاعتماد على رئيس المجلس النيابي، الشيعي، لم يعد صالحاً. فالكنيسة أملت خيراً من حوار بري - الحريري لتجنيب لبنان تعطيل المحكمة، وخذلتها الأحداث.

وضعت الكنيسة موضوع المحكمة بمرتبة المعركة على الحفاظ على الصيغة اللبنانية (العيش المشترك) والسبب بسيط جداً: ثمة شعور دفين وعميق لدى البطريركية المارونية يستهول الآثار السلبية لأي دور مسيحي في تعطيل المحكمة، على العلاقات المسيحية - السنية، في سياق التناقضات الطائفية والمذهبية التي تشهدها أزمات المنطقة وتنعكس على المسيحيين مزيداً من التهجير والهجرة. واذا كان الرئيس اميل لحود لا يقيم وزناً لذلك، واذا كان laquo;حزب اللهraquo; وحركة laquo;أملraquo; خاضا مغامرة خطرة بتعطيلهما إقرار المحكمة حتى الآن، انعكست على العلاقات السنية - الشيعية، فتدخلت ايران لضبطها في شهر كانون الاول (ديسمبر) الماضي، فإن استمرار وجود تغطية مسيحية سواء في الرئاسة او عبر تحالف الزعيم المسيحي الأقوى العماد ميشال عون مع laquo;حزب اللهraquo; و laquo;أملraquo; في تعطيل المحكمة، سيحمّل المسيحيين قسطاً من المسؤولية عن هذا الصراع اذا تفاقم ويقحمهم فيه بلا طائل، ويضعفهم في التسوية السياسية التي ستنهيه حين تحصل، فضلاً عن ان أرقام هجرة المسيحيين من لبنان تفزع آباء الكنيسة.

من المؤكد ان في يد المعارضة أوراقاً للرد على عريضة الأكثرية. إلا أن تلويح بري أول من أمس باستقالة نواب المعارضة يجب ان تدرسه المعارضة بالعلاقة مع موقف الكنيسة: هل يشارك النواب المسيحيون في خطوة كهذه؟