د. محمد الرميحي

آخر تفجير حدث في بيروت هو تقطيع أوصال المرحوم وليد عيدو القاضي والسياسي عضو البرلمان اللبناني، الذي لا ينعقد، والمتحدث الأكثر جرأة في طاقم 14 مارس الذي يقوده السيد سعد الحريري، بالاشتراك مع وليد جنبلاط وسمير جعجع وآخرين من ذلك التيار الواسع.

لا يحتاج الأمر إلى كثير ذكاء ليعرف المراقب من هم المستفيدون في إسكات ذلك الصوت الحاضر في معظم مرثيات لبنان التلفزيونية، أو لمن ترى توجه الرسالة القاتلة؟

في الخيال الجامح قد يتصور أحد، أن هناك مجموعة من الناس تريد أن تضرب بقسوة الوضع اللبناني ببعضه، واختارت قتل وليد عيدو كصاعق للتفجير. هذا إذا استبعدنا ما يدل عليه متوسط الذكاء والمعنيون بالأمر. إن المستفيدين وكذلك المحرضين هم فئة يمكن الإشارة إليهم باليد المجردة، لأنهم معرفون بالعين المجردة. ولكن إذا كان ثمة شك في الجهة الفاعلة فإن المنطق يقول ولماذا عيدو بالذات؟ إن المقصد السياسي هو رسالة قوية باتجاه جماعة 14 مارس، والمعنى واضح.

أنتم تستقوون بالخارج الدولي ونحن نصفي رجالكم واحداً بعد آخر. عيدو كان متوافرا بوضوح على كل المنابر والناس تتذكر صورته وهندامه، لذا فانه هدف معقول لإرسال رسالة واضحة، والآخرون عليهم إما الانصياع لسلسلة من المطالب من بينها التنازل عن الحكم في لبنان لتركه لآخرين (يريدون الشراكة بكل قوة وبكل سرعة) وإما أن تقل نسبة laquo;الأكثريةraquo; العددية في laquo;الضفةraquo; المؤيدة لـ14 مارس وأطروحاتها لتصبح أقلية، وهي أكثرية على كل حال تسمى من قبل المعارضة استهزاء بـ laquo;الوهميةraquo;. الفعل في الحقيقة يعني التغلب على الآخر بـ laquo;الاغتيال الديموقراطيraquo;، أي جعل الغالبية البرلمانية laquo;أقليةraquo; عن طريق التصفية لأفرادها واحداً بعد آخر، لذا فإن من العقل القول إن بقية أفراد الغالبية عليهم أن يتبخروا من لبنان أو أن يواجهوا القتل، أو من أجل سلامتهم عليهم أن ينضموا إلى الطرف الآخر ويهجروا صفوف 14 مارس، فينجوا بجلدهم.

ثم يقال لنا إن لبنان بعيد عن laquo;الحربraquo; الأهلية، وما يعني إذاً هذا الاغتيال المبرمج إلا نوعاً من الحرب الأهلية. حقيقة أخرى جديرة بالتمعن، مهما على الصراخ بالاتهام، ومن كان المحرض، فإن المنفذ هو من الداخل، والدليل فضيحة المذيعة التي شمتت بالموت علناً وتمنت المصير نفسه للآخرين، هو دليل على عمق الشق اللبناني الداخلي الذي قد يطول ترميمه.

بعض الأطراف اللبنانية وإن شجبت الاغتيال علنا بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن سلوكها السياسي العلني وأطروحاتها الإعلامية العلنية تؤيد مثل هذا الأمر لدفع laquo;الحكومة اللبنانيةraquo; القائمة إلى التنازل والتسليم في النهاية بكل المطلوب، وهو تقديم لبنان مرة أخرى تابعاً منخفض الجناح لقوى إقليمية تُسير سياسته، وتلصق في أثناء كل ذلك كل التهم التي laquo;تثيرraquo; الرأي العام اللبناني، والعربي بالقول: إنهم تابعون للولايات المتحدة، وإن الولايات المتحدة هي وراء كل هذا العبث الجنوني بالوطن اللبناني إلى آخر أطروحات الإثارة! وهي منظومة أيديولوجية تبرر بعدها كل تصرف بما فيه التصفية الجسدية.

مشكلة هذا الفريق تتكون من شقين، الأول هو إمكانية أن يتحول الخطاب المعادي لأميركا إلى خطاب مناقض له بمجرد ما أن تصل القوى الإقليمية إلى وفاق مع تلك البلاد الكبيرة والمؤثرة، أميركا، والثاني أن الكأس الذي يشرب منه مناصرو 14 مارس اليوم وهو الاغتيال الفج والكارثي، فإن هذا الكأس لسبب أو لآخر قد يتحول إلى أيدي من يغض الطرف اليوم عن الاغتيال. بالتأكيد اغتيال عيدو ليس بسبب شخصي، وليس بسبب دَين مادي عليه من قبل البعض، إنه اغتيال سياسي لإسكات صوت من الأصوات القوية أولا وتهديد من يمكن أن يرضخ للتهديد من قوى 14 مارس وتفكيك لحمة التوافق العريض الذي نبع بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري ثانياً.

مسلسل العنف في لبنان لن يتوقف، قد يبدأ بجماعة 14 مارس، ولكن من يستطيع أن يراهن نهائياً على توقف نهر الدم هناك في مكان واحد من دون تجاوزه؟ في وقت ما ليس ببعيد ستكون هناك أيضاً تصفيات في المعسكر الآخر، إما بسبب التغطية على الجرائم الماضية، كما حدث في محاولة اغتيال وزير الدفاع اللبناني الحالي إلياس المر، وإما بسبب نفاذ صبر بعض الأطراف التي تتعجل الانفجار الكبير لتمييع الأجندة بكاملها.

يحتاج لبنان فقط إلى صاعق حتى واحد، ليأخذ اللبنانيين بتلابيب بعضهم إلى جحيم جديد، هو أقسى بكثير من جحيم حربهم الأهلية التي انفجرت في وسط السبعينات ولم تنته إلا قبل عشرية واحدة من فجر القرن الواحد والعشرين، وقتها يدمر لبنان على رأس أهله.

كيف السبيل إلى الخروج من كل ذلك، لبنان مثل فلسطين، ساذج من يعتقد أنه بقواه الخاصة والداخلية يستطيع أن يداوي جراحه، كما أن التدخل الخارجي، وخصوصاً الغربي، هو مغامرة كبرى لا يستطيع عاقل في أي من عواصم القرار الغربي أن يدافع عنها. كما أن عودة التدخل السوري، حتى لو ظن البعض في دمشق جهلاً أنه قد يكون الترياق لكل ما يحدث في لبنان، غير ممكن، فالتاريخ لا يعيد نفسه.

أين المخرج إذاً؟ يستطيع أن يتوافق اللبنانيون في الآخرة بالطبع حيث يلتقي المغدور من 14 مارس بالمغدور من 8 مارس، وبالمغدور من أي رقم من مارس ومن غيره سوف يظهر في القاموس اللبناني قريباً. أما في الدنيا فإن الأقرب إلى المعجزة هو توافق اللبنانيين، ليس لأنهم لا يرغبون في التوافق، بل لأن laquo;الكيانraquo; اللبناني لم ينضج بعد في عقول بعضهم، فبعضهم يرى أن لبنان ممر لمصالح وجسر لتنفيذ أجندة إقليمية، يغطيها بالحديث إما عن laquo;تحرير فلسطينraquo; وإما بـ laquo;محاربة الشيطان الأكبر أميركاraquo; من دون المرور بالوطنية اللبنانية وبحاجات الإنسان اللبناني، مفهوم الوطن لديهم لا يتعدى جسراً لأماكن أخرى من العالم، أو هو ليس أكثر من رقم حساب في أحد بنوك laquo;الأوف شورraquo;.

تجتمع جامعة الدول العربية وتنفضُّ، ويجتمع مجلس الأمن ويتخذ قرارات على الورق تترجم إلى أشلاء في شوارع بيروت، واللاعبون اللبنانيون يضحكون من خاصرتهم على هذا السيرك الكبير، ويأمل بعضهم بانتخاب رئيس جمهورية جديد لعل وعسى، إلا أن الأمر يتجاوز ذلك. المشروع الوطني اللبناني ليس محل توافق في الحياة الدنيا بين اللبنانين، ولعله يكون كذلك في الآخرة عندما يلتقي المغدورون من حرب أهلية سابقة بمغدورين من حرب laquo;لا أعرف كيف أصفهاraquo; لاحقة. والحبل على الجرار.