عبدالحميد الأنصاري


سقطت غزة وأحكمت حماس سيطرتها الكاملة علي القطاع، بعد حرب شديدة الوحشية والدموية راح ضحيتها أكثر من 145 قتيلاً، واستطاعت حماس أن تتخلص من عناصر خصمها اللدود فتح قتلاً أو استسلاماً مهيناً أو فراراً وطرداً ثم قطعت حماس كل روابطها بالسلطة، بدءاً بالاستيلاء علي الأجهزة الأمنية والمقرات الحكومية بما فيها مقر الرئاسة، ومروراً بإنزال العلم الفلسطيني ورفع علم حماس الأخضر، وإنزال صور أبو عمار و أبو مازن واطلاق الرصاص عليها ثم دوسها بأقدام شباب ملثمين عابثين وتم نهب منزل عرفات، وانتهاء بزرع عبوة ناسفة في الطريق التي يسلكها أبو مازن بهدف التخلص منه.

لقد حصل ما حذر منه الكثيرون منذ مدة، ووقعت الواقعة، وأسفرت حروب الاخوة الأعداء عن حكومتين للشعب الفلسطيني: حكومة الطواريء في الضفة برئاسة فياض وحكومة تسيير الأعمال في غزة برئاسة هنية ، التصريحات الصادرة- حتي الآن- من الطرفين تنفيان وجود نية للانفصال إلا أن كل الوقائع علي الأرض تؤكد حقيقة الانفصال وتكرسه.

لقد تحدث أبو مازن في خطابه الأخير أمام المجلس المركزي عن مخطط لسلخ غزة عن الضفة، وإقامة دويلة من لون واحد، يسيطر عليها تيار متعصب وقد أصبح الأمر- الآن- حقيقة واقعة، وإن تظاهرت حماس بغير ذلك، لأنها لا تريد- الآن- إثارة الرأي العام الفلسطيني والعربي، وحماس- حالياً- تريد مزيداً من الوقت لإحكام سيطرتها وإعادة ترتيب الأوضاع في غزة، والأهم من كل شيء تريد كسب ثقة الفلسطينيين في غزة، وأيضاً- تهدئة قلق الجارتين إسرائيل ومصر تجاهها. تريد حماس تلاحم الشعب معها ولذلك نجد أن حماس تبذل كل جهودها لإعطاء انطباع للفلسطينيين في غزة بأن الوضع الآن أفضل وتقول التقارير أن هناك تحسناً في الوضع الأمني وإنسياباً في حركة المرور كما أن العمل مستمر في الوزارات، هذا من جهة، ومن جهة أخري وجدنا الزهار يسارع إلي طمأنة إسرائيل بقوله لا هجمات بالصواريخ علي إسرائيل إلا إذا اعتدت علي غزة كما يبادر هنية إلي طمأنة دول العالم علي رعاياها ويعد بإطلاق سراح الصحفي البريطاني ويتوجه إلي الدول العربية بتأكيده احترام العلاقات الأخوية.

كل المظاهر تؤكد حالة الانفصال والمسألة متوقفة علي قبول إسرائيل وجود الإمارة الإسلامية الجديدة علي حدودها وبخاصة أن حماس الآن علي استعداد كامل لإبداء حسن النوايا تجاهها، وطي صفحة الجهاد ودفن الصواريخ في رمال غزة، كما يقول ياسر عبدربه .

التصريحات الإسرائيلية المعلنة- حتي الآن- أنها تدعم أبو مازن وتري حل المسألة في المستقبل البعيد، في إقامة دولتين لشعبين، لا 3 دول لشعبين علي حد قول السفيرة الإسرائيلية في روسيا.

المدهش في سقوط غزة أنه لا ردود فعل عربية غاضبة- حتي الآن- توازي خطورة الحدث! لم نشاهد مسيرات تندد، ولا مظاهرات تحتج، ولا بيانات تستنكر، ولا خطب مشايخ تحذر من مخطط حماس الانفصالي ولا فتاوي في حكم ضحايا حماس من المدنيين ومن فتح الذين سقطوا بنيران حماس، هل هم شهداء أم مجرد قتلي؟

المسيرات العربية تخرج لأمور أقل أهمية مثل مقاطعة البضائع الأجنبية، وضد منح رشدي لقب فارس ولكن لم تخرج مظاهرة تندد بفعلة حماس من قتل وحشي طال الأطفال. والنساء، لم نسمع حتي الآن صراخ الخطباء، ولا صرخات المناضلين عبر الفضائيات: لم نسمع غير بيان الجامعة العربية اليتيم، وتصريح مسؤول مصري برفض مصر قيام دولة دينية علي حدودها! أين المناضلون العروبيون ضد تقسيم فلسطين إلي كانتونات؟! أين الرموز الدينية التي تتهم الأعداء الذين يريدون تمزيق الأمة؟! لماذا لم نعد نسمع أصواتهم؟! ما معني هذا السكوت العام المريب والغريب؟! هل لأن أمريكا وأوروبا وإسرائيل تؤيد أبو مازن ، فهم يؤيدون حماس في مشروعها الإنفصالي نكاية في الأعداء؟! حماس مازالت مؤيدة بالمنظمات الأصولية وبتنظيم الاخوان الدولي وبعض الدول الاقليمية المتهمة بدعم حماس خدمة للأجندة الخارجية.

هل حقاً تسعي حماس لخدمة أجندة خارجية؟! لا أظن ذلك، وفي الأمر مبالغة، حماس تسعي وبالدرجة الأولي لخدمة نفسها ومخططها وإن توافقت في ذلك مع الأهداف الخارجية. حماس تريد وتسعي منذ البداية لتكوين دولة إسلامية تطبق الشريعة حسب مفهومها بعيداً عن وصاية فتح ورقابة السلطة دولة خاصة بها، تحكمها منفردة، والدولة، حلم كل المنظمات الدينية السياسية وبالذات الاخوان المسلمون وما حماس إلا ربيبة الاخوان، وقد احتج الاخوان لانحياز مصر لعباس. وحماس تعتبر حربها ضد فتح جهاداً وتحريراً، ولذلك حرصت فضائية الأقصي علي تصوير عناصر القسام يسجدون شكراً لله علي النصر بعد أن استولوا علي مقر الأمن الوقائي- قلعة فتح المحصنة- وقالوا إنهم سيحولونه إلي كلية لأصول الدين، وشبه أبو زهري سقوطه بسقوط مكة في يد الرسول صلي الله عليه وسلم وقال: هذا هو التحرير الثاني لغزة، فالتحرير الأول كان من المستوطنين، و التحرير الثاني كان من ّهؤلاء العملاء!!

إذن القضية ليست خدمة مخططات خارجية مستفيدة من الوضع الجديد، وليست القضية خلافاً علي المسألة الأمنية كما يصورها البعض، كما أنها ليست خلافاً عقائدياً متعلقاً بالثوابت الدينية والوطنية كما يصورها أنصار حماس ومؤيدوها، القضية هي صراع علي السلطة والاستئثار بها، ظنت حماس أنها بفوزها فهي الأحق بحكم الفلسطينيين - وحدها- فلم يتحقق ثم جربت حكومة الوحدة الوطنية فلم تفلح وأخيراً قامت بانقلابها الذي مكنها من حكم غزة، وقريباً ستعلن انفصالها. وكثيرون يظنون أن حماس تنتحر بهذا السعي، وذلك غير صحيح إذا تمكنت من تهدئة قلق الإسرائيليين وهي قد أعطت اشارات كثيرة بدءاً من وثيقة أحمد يوسف المستشار السياسي لهنية إلي التزامها بالهدنة إلي التصريحات الأخيرة، وإسرائيل بدورها قررت مواصلة إمداد غزة بالماء والكهرباء بل حتي بالمساعدات الإنسانية لمنع حصول أزمة إنسانية وأما مسألة المجاعة فهناك دول عديدة ستتكفل بمنعها وقال أبو زهري إن الحركة ستطعم سكان غزة بطريقة أو بأخري.

وأخيراً: إذا كان الانفصال هو خيار الشعب في غزة وهو خيار حماس، ويضمن العيش الكريم والكرامة ويحد من الفلتان الأمني والفوضي، ويصون الدم الفلسطيني فلنحترم خيارهم فعسي أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً والمعاشرة إما أن تكون بالمعروف أو تسريحاً بإحسان، إذا كان الانفصال هو الحل المر لحروب الاخوة الأعداء فلماذا لا نجربه؟!