معن البياري

أصابت كثيراً نضال الأشقر في قولها مرّة لجورج حبش إنها لن تخاطبه بلقبه الحكيم، لأن غيره يحملون هذا الوصف، لكنها ستخاطبه باسمه الذي ينفرد به، إذ يكفيه أنه جورج حبش. والوجاهة في هذا أن اسم الراحل الكبير يستحضر تجربة ثريّة في مسار من الكفاح والنضال طويل، جبلها صاحبها بثبات على المبادئ وصلابة في مواجهة العدو، وإيمان بوجوب الوحدة وضرورات التحرر العربي. وإذا كان معن بشور رأى فيه حارساً للثوابت، وطلال سلمان يجده قدّيس الحلم العربي، ومحمود درويش اعتبره قائداً يستوطن البديهة، فإن إغراءً خاصاً سيتملك قارئ سيرة جورج حبش في التعرّف إلى سماته الشخصية والإنسانية التي جعلته يحوز كل هذا الحب الوفير الذي ظل يرفل به، ويصل إلى حدود الإجماع على زعامته وطهره الثوري وزهده وفروسيته. ويتذكر كاتب هذه السطور وقوف جميع من كانوا في قاعة المسرح الملكي في عمّان وتصفيقهم الكثير عندما دخل حبش إلى القاعة، والهتافات التي علت تُحييه، وكان ثمّة حكوميون وإسلاميون وقوميون وعاطلون، وكانت المناسبة نصرة العراق أمام ما كان يُدبر له في صيف 1990. تحدث حبش عن تحديات تلك اللحظة، وقال كلاماً أنيقاً، ولم يكن المرض اللعين قد تمكّن من جسده. أتذكرني أتفرّس في قسماته وأنصت إلى إيقاع نبرته، وأستذكر في اللحظة نفسها كيف كنّا نتبارى في الإتيان على اسمه في ثرثراتنا في السياسة وفي تظهير تقدميتنا الغضّة في سنوات دراستنا الجامعية في ميعة شبابنا الأول. ومما لا أظنني أنساه أن حبش جاء في كلمته تلك على أخطاء وقع فيها وحدويون ويساريون عرب، ومنها مؤازرتهم جبهة بوليساريو ضد النظام في المغرب، فيما نزعتها انفصالية، وأتذكر قوله إنه على سوء الشرعية الدولية وقراراتها ينبغي عدم إهدار التمسك بها، والعمل على الارتفاع بها إلى سويّة الحق الفلسطيني وسائر الحقوق العربية.

كانت زيارته الأولى إلى عمّان بعد سنوات طويلة عقب مغادرتها بعد أحداث ldquo;أيلول الأسودrdquo; إياه، ونُشر في أثناء الزيارة أن الراحل الملك الحسين استقبل حبش، ومؤكد أن حوارا له قيمته التاريخية دار بينهما، فالمسافات بين الرجلين طويلة، ولا أغالي في الزعم هنا أن انعقاد ذلك اللقاء دلّ على ما تمتع به الملك من مناقبية خاصّة، وعلى مرونة فكرية ورحابة عقل بديعة كان عليها جورج حبش الذي لا غلو ولا تزيّد في الرأي أن شجاعته لا تكاد توصف في مراجعة تجربة كفاحه ومحطات جيله في النضال الثوري المسلح والفكري والتنظيمي، وفي تعيين ما اعتبرها أخطاء أو سلبيات أو تجاوزات. وأقول هنا إن الفقيد الكبير كان مهجوساً في العقد الأخير من حياته على الأقل بنقد مرحلته وتظهير ما كان عليها وما لها، ليس من باب الأسف ولا الندم ولا الاعتذار عن خيارات فكرية واصطفافات سياسية، بل صدوراً عن رؤية تنحاز إلى وجوب إشاعة ثقافة النقد والتصحيح والمراجعة، ويتبدى ذلك مبكّراً في رفضه الاستمرار في العمليات الفدائية في الخارج وقرار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في 1972 وقف هذه العمليات التي كان منها خطف الطائرات.

وعن هذا الأمر، يقول في حوار معه نُشر قبل نحو عامين إن شعار ldquo;وراء العدو في كل مكانrdquo; جاء استجابة لظروف وأهداف منوي تحقيقها، وrdquo;منها التعريف بالقضية الفلسطينية وفرضها على الأجندة السياسية الدولية، غير أنه وعلى ضوء التطورات لاحقاً، وبعد أن أصبحت القضية في مركز الأجندة السياسية الصدارة عالمياً، وبما أن هدف نضال شعبنا الفلسطيني تحقيق الحرية والاستقلال الوطني من خلال دحر الاحتلال عن أرضنا، فقد ظلت استراتيجية المقاومة والكفاح المسلح قائمة، إضافة إلى كل أشكال النضال الأخرى السياسية والإعلامية والثقافية والاجتماعية هي الأساس في تفكيرنا. لذلك، كان القرار بإيقاف العمليات الخارجية لأن الهدف المرحلي منها تحقق، وكان لا بد من أن يتجه تفكيرنا إلى العمل والنضال داخل فلسطين، فتغيير أدوات النضال حسب كل مرحلة لا ينفي الأساس في استراتيجية المقاومة والكفاح المسلح، فحق العودة والنضال من أجل تحقيق هذا الهدف بالنسبة إلى فلسطينيي الشتات لا يزال هدفاً ومحرضاً أساسياً للنضال في الخارج. وفي سياق صراعنا المرير مع العدو الصهيوني، يمكن إبداع أشكال مختلفة من النضال تتلاءم والظروف والتطورات التي تواجه قضيتنا.

ويدلل هذا الاقتباس على حذاقة ldquo;أبو ميساءrdquo; الفكرية والسياسية في دعوته إلى تجديد وسائل المواجهة مع العدو ldquo;الإسرائيليrdquo; وتنويعها، مع الأخذ في الاعتبار المستجدات والتحولات التي

تطرأ، من دون أي تنازل عن الأسس الوطنية.

وفي هذا السياق، يكون طيّباً مطالعة الحوار الشامل الشديد الأهمية مع حبش ونشرته في كتيّب من 121 صفحه مؤسسة الدراسات الفلسطينية في ،1998 وأجراه محمود سويد. وفيه، لا يتهرب الزعيم الكبير من الإقرار بأي أخطاء، بل يبدي استعداداً استثنائياً لتحمل مسؤوليته، وrdquo;تحمل محاكمة الشعب والتاريخ مهما كانت قاسيةrdquo;، بتعبيره شخصياً. وإذ من شمائل جورج حبش أنه كان قليل الكلام، فإن كثيرين عرفوه وحاوروه نقلوا لنا أنه كان استثنائياً بين الزعامات النضالية الفلسطينية والعربية في الاستماع إلى وجهات النظر التي تخالف آراءه وخياراته، وفي تعيين ما قد يرى فيه صواباً أو خاطئاً. وفي ذلك كله، لم يغفل عن التأشير إلى كل العوامل الضاغطة والتحالفات الداخلية مع قوى الاستعمار، وفي الوقت نفسه يقول إن جيله حاول وإذا كان قد فشل فإن الدور حاليا لغيره، وهو الذي ما قصّر عندما أيقظ في الحالة العربية روح الوحدة وأشعل أفكار القومية وخيارات التقدم والتحرر والمضي في كفاح لا يلين من أجل استقلال العرب وإرادتهم، ومن أجل استعادة فلسطين وعودة اللاجئين من أهلها إليها.

كان جورج حبش رائداً صلباً في هذا كله وغيره، وظلّ عليه حتى اشتدّ حزن جديد فينا عند وفاته، وحالنا على ما هو عليه من بؤس وتعاسة، وهو الذي كان يدرك أن أقصر الطرق إلى التفريط في الثوابت أن تدفع بشعبك إلى مهاوي الانشقاق والاحتراب والتقسيم، وهذا درس آخر من دروس وفيرة في تراث ونضال وحياة جورج حبش.