جيفري كمب

في السابع عشر من شهر فبراير المنصرم، أعلن إقليم كوسوفو استقلاله عن صربيا. ومنذ الحرب التي قادها حلف quot;الناتوquot; ضد القوات الصربية في الإقليم عام 1999، ظلت كوسوفو تحت حماية quot;الناتوquot;، في ذات الوقت الذي تواصلت فيه جهود الأمم المتحدة لتأمين استقلال الاقليم عن صربيا. غير أن روسيا وقفت حجر عثرة أمام هذه الجهود، بسبب العلاقات التاريخية الوثيقة التي تربطها بصربيا، إلى جانب مخاوفها من القلاقل التي تثيرها الأقليات الروسية نفسها بسبب ذلك الاستقلال. أما في صربيا ذاتها، فقد ووجه إعلان استقلال الإقليم بمشاعر الغضب التي أسفرت عن تنظيم مظاهرات هادرة في العاصمة بلجراد، بما فيها الإقدام على حرق مبنى السفارة الأميركية هناك. ذلك أن لكوسوفو مكانة تاريخية استثنائية ومقدسة في نفوس الصرب، ولها أهمية في أساس دولتهم الأم. بل إن منهم من شبّه خسارة صربيا لكوسوفو، بخسارة الولايات المتحدة الأميركية لقلعة quot;ألموquot; الدينية التاريخية لصالح المكسيك.
وتثير مسألة كوسوفو هذه، عدداً من التساؤلات المهمة ذات الصلة بتماسك القارة الأوروبية مستقبلاً، إلى جانب ما تثيره من تساؤلات بشأن قضايا الأقليات التي لم تحل بعد في منطقة الشرق الأوسط والقارة الآسيوية. والمثير للاهتمام أن الدول الرئيسية المؤيدة لاستقلال الإقليم -وهي الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا- قد ووجهت بمعارضة قوية من عدة دول أوروبية، لاسيما رومانيا وإسبانيا وقبرص. أما المعارضة الأقوى والرئيسية لهذه الخطوة، فمصدرها -إلى جانب صربيا نفسها بالطبع- هو روسيا والصين أيضاً، واللتان رأتا في الإعلان عن استقلال الإقليم، ليس انتهاكاً للقانون الدولي فحسب، بل إرساءً لسابقة ربما ترتد إلى نحر ذات الدول المؤيدة لخطوة الاستقلال هذه.

وفي الحقيقة فإن نسبة 90 في المئة من سكان الإقليم هم من المسلمين الألبان الذين عانوا من وطأة قهر المسيحيين الأرثوذكس الصربيين على امتداد عدة سنوات. وكانت صربيا على استعداد لمنح الإقليم حقوق استقلال ذاتي موسع، لكن دون أن تصل هذه الحقوق إلى حد الإعلان عن استقلاله. وقد تزامنت هذه الخطوة مع انتهاء صربيا من انتخاباتها للتو، حيث أبدت حماساً بالغاً للانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. لكن وبما أن الاتحاد نفسه قد بدت صفوفه منقسمة على نفسها حول مسألة استقلال كوسوفو، فالمرجح أن تؤجل مفاوضات انضمام صربيا إليه، دون أن يقلل ذلك من فرص انضمامها في نهاية المطاف. ومن ناحيتهم يزداد قلق الأوروبيين من تجدد أي نزاعات في منطقة البلقان التي سممت السياسات الأوروبية لمئات السنين. ومن المؤكد أن في انضمام صربيا لعضوية الاتحاد ما يحد من هذا الخطر ويقلل من احتمالات حدوثه.

وكما سبق القول، فإن هناك من نظر سلفاً إلى استقلال كوسوفو باعتباره خطوة مشجعة للحركات الانفصالية في عدة دول أخرى، مثل العراق وإيران، بل إن تلك الخطوة ربما تشجع الفلسطينيين على الإعلان عن استقلال دولتهم أحادياً في لحظة من اللحظات. أما في القارة الآسيوية، وفيما لو حلت قضايا الأقليات في الكثير من بلدانها بذات النهج الذي حلت به مسألة كوسوفو، فإنه ليس متوقعاً أن يكون لحل كهذا، أي أثر إيجابي على الانسجام الإقليمي في القارة. وإذا ما نظرنا إلى الجزء الجنوبي من آسيا وحده، فما على المرء إلا أن يستعيد في ذهنه ما تسعى إليه الحركات الانفصالية في كل من إقليم بلوشستان الباكستاني، وما يعنيه النزاع الهندي الباكستاني حول إقليم كشمير، وكذلك عليه أن ينظر إلى تطلعات حركة التاميل الانفصالية السريلانكية... ليرى حجم التمزق الإقليمي الذي يمكن أن ينجم عن انفصال هذه الأجزاء معاً. وبالقدر نفسه، فإن لإندونيسيا كل الحق في أن تخاف على إقليم آتشيه، بينما تواجه كل من تايلاند والفلبين، تنامي حركات إسلامية متمردة في جنوبهما. وفي الوقت ذاته، تكاد الصين تجن من احتمال إعلان تايوان استقلالها عنها ذات يوم.

وفيما يبدو فإن الولايات المتحدة الأميركية وحليفاتها، لم تفكر بما يكفي من العمق في حجم التداعيات الإقليمية والقارية المحتملة لاستقلال كوسوفو الذي أيدته وساندته. وقد أبدت هذه الدول ضيقاً وتبرماً من اعتراضات روسيا المستمرة على مشروع قرار الاستقلال داخل الأمم المتحدة، وهي الاعتراضات التي سببت لهذه الدول نوعاً من الإحباط. بيد أن الخطوة العملية قد اتخذت مجراها بالإعلان عن استقلال الإقليم في نهاية الأمر.

والسؤال المهم هو ما إذا كان في وسع صربيا التعايش السلمي مع مرارة خسارتها لكوسوفو، في مقابل تعويضها عنه بتوثيق علاقتها مع الاتحاد الأوروبي؟ ورغم دعوة بعض الوطنيين الصرب إلى تمتين العلاقات مع روسيا، فالحقيقة هي أن المغناطيس الجاذب ليس لغالبية الصرب فحسب، وإنما لغالبية مواطني أوروبا الشرقية هو الاتحاد الأوروبي وليس روسيا على أية حال.
ولو لم يكن الصرب تحت قيادة الجنرال السفاح سلوبودان ميلوسيفيتش، بكل ذاك العنف وتلك الوحشية في قمع مواطنيهم وجيرانهم من المنتمين إلى الأقليات الأخرى، لما نشبت حرب عام 1999 التي شنتها ضدهم الأسرة الدولية بقيادة حلف quot;الناتوquot;، بهدف إرغامهم على وقف مذابحهم الجماعية وتطهيرهم العرقي للأقلية الألبانية المسلمة... ولأمكن لصربيا الاحتفاظ بإقليم كوسوفو تحت سيادتها إلى اليوم. لكن ماذا يفيد عض أصابع الندم؟ وما الذي تغيره لغة quot;لوquot; هذه؟ فالحقيقة أن صربيا تدفع الآن كل هذا الثمن الباهظ عقاباً لعنف نزعتها الوطنية، واقتصاصاً من وحشية جنرالها ميلوسيفيتش، الذي جرّ منطقة البلقان بأسرها إلى أكثر حروب أوروبا دموية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية!