الياس خوري

امس انتهت حرب تموز (يوليو) 2006، مع اقرار الحكومة الاسرائيلية صفقة التبادل مع حزب الله ، التي وصفها رئيس الوزراء الاسرائيلي اولمرت بالكلمات التالية: اسرائيل ستعرف حزنا لا يوازيه سوي الاحساس بالذل، نظرا للاحتفالات التي ستقام في الطرف الآخر .
الحزن والذل، هذا هو حصاد الغطرسة التي وسمت السياسة الاسرائيلية، منذ تأسيس الكيان الصهيوني علي ارض فلسطين عام 1948. غطرسة قادت الي حرب تموز (يوليو)، حيث اعتقد الاسرائيليون ان التفوق الجوي يسمح لهم باستباحة الأرض، وان الجبروت العسكري يسمح لهم بفرض مقاييسهم العنصرية علي الآخرين.
امس انتهت حرب تموز بالخزي، مقدمة درسا بليغا عن اهمية الصمود، وقدرة الفلاحين المتمسكين بأرضهم علي اذاقة اكبر جيش في الشرق الأوسط الهوان.
الفرحة بعودة الأسري يجب ان لا توازيها سوي الفرحة بعودة الذاكرة. اذ سوف تقوم اسرائيل باقفال مقبرة الأعداء وتسليم جثث الفدائيين والمقاومين.
من بين جميع الاسماء استوقفني اسمها، دلال المغربي، وردة فلسطين. ابنة اللد التي كانت اول قائدة عسكرية في تاريخ النضال الفلسطيني المعاصر، والتي قادت اجرأ عملية فدائية في تاريخنا. الفتاة التي ولدت في مخيم صبرا عام 1958، وسقطت شهيدة في الطريق الساحلي بين حيفا وتل ابيب يوم السبت 11 آذار (مارس) 1978، بعد واحدة من اروع مغامرات البطولة في تاريخ المقاومة.
قبل ان تقود مجموعة مؤلفة من احد عشر فدائيا الي ارض الوطن، من خلال زوارق مطاطية، تم اتلافها وتدميرها لحظة الوصول الي الشاطئ الفلسطيني، كتبت دلال المغربي وصيتها، التي تقول:
وصيتي لكم جميعا ايها الاخوة حملة البنادق، تبدأ بتجميد التناقضات الثانوية، وتصعيد التناقض الرئيسي ضد العدو الصهيوني، وتوجيه البنادق كل البنادق نحو العدو. استقلالية القرار الفلسطيني تحميه بنادق الثوار ...
ابنة العشرين، التي لم ترَ فلسطين الا لحظة الموت، قادت مجموعة من الفدائيين تضم: محمود علي ابو منيف (نابلس)، يحيي محمد سكاف (طرابلس- لبنان)، خالد محمد ابراهيم (فلسطين)، خالد عبدالفتاح يوسف (طولكرم)، محمد مسامح (طولكرم)، محمد حسين الشمري (اليمن)، محمد الشرعان (لوبيا- فلسطين)، محمد فضل اسعد (حيفا)، عبدالرؤوف عبدالسلام (اليمن)، عامر عامرية (المنية- طرابلس)، حسين ابراهيم فياض(خان يونس)، علي حسين مراد (صيدا).
فتاة في العشرين، سافرة الملامح، سمراء، واسعة العينين، تقود عشرة شبان في مثل عمرها، ينتمون الي فلسطين ولبنان واليمن، لا هدف لهم سوي الوصول الي الأرض، واعلان هويتها بدمهم المسفوك. ركبوا باخرة تجارية، وعندما وصلوا الي محاذاة الساحل الفلسطيني رموا زورقيهم المطاطيين في البحر، ثم رموا انفسهم وتسلقوا الزورقين، وعندما وصلوا الي شاطئ حيفا، اتلفوا الزورقين، معلنين ان العائد الي وطنه لا يعود من عودته، ومضوا الي موتهم في باص اسرائيلي مليء بالركاب. اعلن مناحيم بيغن، رئيس وزراء اسرائيل ان الشرطة الاسرائيلية احرقته، وقتلت من فيه، لأنه لم يتوقف عن اطلاق النار.
تعالوا نتأمل اليوم، ونحن نستعد لاستقبال رفات دلال المغربي ويحيي سكاف ورفاقهما، دلالات تلك العملية البطولية، كي نقرأ من خلالها جزءا من تاريخنا الذي يجب ان يبقي حيا في الذاكرة، ودرسا نتعلم منه، ونستلهمه.
اطلق ابو جهاد الوزير، القائد الاسطوري لفتح علي المجموعة اسم مجموعة دير ياسين، كما اطلق علي العملية اسم عملية الشهيد كمال عدوان. وفي الاسمين دلالات كبري. دير ياسين سوف تبقي محفورة في ذاكرة الدم والألم، وكمال عدوان، الذي كان قبل ابي جهاد، المسؤول عن القطاع الغربي في فتح، (اي عن العمليات العسكرية في الارض المحتلة)، سوف يلاحق دمه المراق القتلة الي نهاية الاحتلال.
جاءت العملية وسط شعور المقاومة الفلسطينية بما يشبه الحصار في لبنان، علي اثر دخول الجيش السوري الي البلد المنكوب بالحرب الأهلية، فأعادت الأمور الي نصابها، اي الي التناقض الرئيسي، الذي لا يستطيع النظام العربي مصادرة او ابتلاع المقاومة، اذا تمسكت به. هكذا استعادت الثورة قدرتها علي المبادرة، وكسرت الحصار.
كما ان العملية جاءت لتذكر العدو الصهيوني ان اي اتفاق مع النظام العربي من دون استعادة الحقوق الفلسطينية سوف يتمزق. فقامت دلال المغربي ورفاقها بتمزيق اتفاق كامب دايفيد قبل ان يوقع، واعلنت ان فلسطين ملك لابنائها وللمقاتلين في سبيلها.
تألفت المجموعة من مقاتلين فلسطينيين ولبنانيين ويمنيين، اي ان الوحدة بين العرب تصنعها فلسطين، وان هذا الأفق الفلسطيني كان وسيبقي هو الأفق العربي الوحيد.
واخيرا تأتي المرأة، امرأة تقود المعركة، وبذا تعلن الثورة المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، وتسقط المحرمات كلها.
في الوصية التي كتبتها دلال درس بليغ لرفاقنا واخوتنا في فتح وفي بقية المنظمات الفلسطينية، انه درس المقاومة والوحدة، والتركيز علي التناقض الرئيسي مع الاحتلال، وان البنادق كل البنادق يجب ان توجه نحو العدو. البندقية التي ترتفع في غير مكانها تخون عهد الدم وعهد الأرض.
بعد استشهاد دلال المغربي، التي اتخذت لنفسها اسم جهاد، وبعد الصورة التي نشرها الاسرائيليون لدلال شهيدة في ارض المعركة، اعلنــــــت والدتها انها تريد لابنتها ان تدفـــن في فلســــــطين. وضع الاسرائيليون جثة دلال ورفاقها في مقبرة اطلقوا عليها اسم مقبرة الأعداء في شمال فلسطين.
واليوم سوف تعود دلال الي المخيم المدمر، ولن تجد قبرا سوي في المسجد الصغير داخل مخيم شاتيلا الذي حوله الفدائيون خلال حرب المخيمات الاجرامية مقبرة. سوف تنام مؤقتا الي جانب علي ابوطوق ورفاقه، قبل ان يجيء الزمن، وهو آت لا ريب في ذلك، حيث ستجد رفاتها الراحة الأبدية في مدينتها الصغيرة اللد.