سلامة نعمات

كشفت ردود الأفعال العربية المتباينة على أحداث غزة انقساما لم يسبق أن شهده العالم العربي تجاه المسألة الفلسطينية، إذ على الرغم من الإجماع العربي على التعاطف مع معاناة الشعب الفلسطيني، فإن الموقف من حركة laquo;حماسraquo; وصواريخها كان مختلفا، ما بين من دعمها وأيدها، بغض النظر عن التكلفة والنتائج، ومن حمّلها مسؤولية الكارثة الجديدة التي حلّت بالشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والخسائر البشرية الهائلة التي تكبدها.

وانقسم الرأي العام العربي حيال مأساة غزة في شكل موازٍ للانقسام بين السلطة الفلسطينية وحركة laquo;حماسraquo;، وبين المؤيدين لسياسات إيران وسورية، وحلفائهما الإقليميين، والمعارضين لهما ولأتباعهما في المنطقة، بمن في ذلك تنظيم laquo;حزب اللهraquo; اللبناني المدعوم من إيران.

وبغض النظر عن الموقف الأميركي غير المفاجئ، الذي لم يأت بجديد، أو الموقف الأوروبي الذي ركّز على الجوانب الإنسانية للصراع من دون اتخاذ موقف حاسم بإدانة أي من طرفي النزاع، لم يعد يخفى على المراقبين أن قطاع غزة بات اليوم ساحة المواجهة المركزية بين تيارين إقليميين، رسما الخطوط الفاصلة بينهما، وأسهما في سياسات استقطبت الرأي العام العربي في شكل لم يسبق له مثيل، كما تشير مقالات الرأي وتعليقات الصحف والمواقع الإلكترونية المختلفة.

ويمكن القول إنه وللمرة الأولى، يشن معسكر الاعتدال العربي هجوما مضادا وفعالا ضد المعسكر الذي تقوده إيران، خصوصا أن حركة laquo;حماسraquo; وإيران لا تستطيعان التنصل من مسؤوليتهما تجاه اتخاذ الحركة قرار إنهاء laquo;التهدئةraquo;، وإلغاء وقف إطلاق النار، ومواصلة إطلاق الصواريخ البدائية التي استدرجت الهجوم الإسرائيلي المدمر.

وبغض النظر عن النوايا الإسرائيلية المعلنة أو المبيّتة تجاه حركة laquo;حماسraquo;، فإن الحركة وفّرت الذرائع التي كانت تحتاج إليها إسرائيل والغطاء السياسي للمضي في عدوانها على الحركة ومواقعها وبناها التحتية في القطاع.

ويلاحظ من قراءة مقالات الرأي والسجالات الفضائية وغيرها من التعليقات التي غصت بها الصحف والمواقع الإلكترونية أن معسكر laquo;الممانعةraquo; الذي تقوده ايران بات في حال دفاعية غير مسبوقة، مقارنة بالموقف الذي واكب حرب تموز في العام 2006، عندما شنت إسرائيل عمليات عسكرية مدمرة في لبنان ردا على اختطاف جنديين إسرائيليين من جانب laquo;حزب اللهraquo;. إذ إن حرب لبنان وضعت المعسكر العقلاني والبراغماتي العربي في حال دفاعية في حينه، فيما أحرزت ايران وحلفاؤها تقدما، وهو ما لم يحصل هذه المرة. وأسهم في انقلاب الوضع الإقليمي على هذا الشكل موقف كل من ايران وحزب الله التحريضي ضد الأطراف العربية المناوئة لها. إذ فيما اتهمت ايران وسورية والميليشيات التابعة لهما معسكر الاعتدال بالتخاذل، لم تقدم طهران ودمشق والتنظيمات المسلّحة التابعة لهما على أي عمل يتجاوز الصواريخ الكلامية، ما فضح الازدواجية التي تمثلت في عدم تحريك الجبهة اللبنانية ضد إسرائيل على أقل تقدير. وأظهر هذا الموقف أن إيران لا تتحرك إلا في ما يخدم مصالحها في سياق حسابات إقليمية ودولية.

إذ إن إيران، التي تتمسك بموقف سياسي معاد لأميركا وحلفائها، لم تتردد في إبرام صفقة مع أميركا في ما يتعلق بتهدئة الوضع في العراق بالتعاون مع الحكومة العراقية والقوات الأميركية عندما رأت ان في ذلك خدمة لمصلحتها، في مقابل إبعاد شبح قيام أميركا أو إسرائيل أو كلتيهما بتوجيه ضربات جوية للمنشآت النووية الإيرانية.

وعلى الرغم من المواقف الايديولوجية التي تتمسك بها طهران، فإن أفعالها على الأرض أثبتت قدرا كبيرا من البراغماتية التي تواصل مهاجمتها لدى ممارستها من جانب دول عربية مثل مصر والأردن، وهما الدولتان اللتان كانتا أبرمتا معاهدتي سلام مع إسرائيل. لذلك، صمدت التهدئة الإسرائيلية مع حزب الله، واستتباعا مع ايران، حوالي عامين ونصف العام على الجبهة اللبنانية منذ انتهاء حرب تموز. ويأتي التمسك حاليا بالتهدئة على الجبهة اللبنانية ليؤكد أن طهران تلتزم تعهداتها مع الأطراف الإقليمية والدولية حين يتوافق ذلك مع مصالحها، حتى ولو أضر ذلك بحلفاء مؤقتين مثل laquo;حماسraquo; تم استغلالهم، كما تم استغلال laquo;حزب اللهraquo; كحصان طروادة يسمح لإيران بإبرام صفقات مع أطراف إقليمية ودولية تشمل إسرائيل والولايات المتحدة.

ولم يسعف خالد مشعل، زعيم حركة laquo;حماسraquo; في المنفى أنه قلل من فظاعة الكارثة التي حلت بالغزاويين نتيجة قرارات قيادته السياسية المتحالفة مع طهران، فيما جاءت تصريحات اسماعيل هنية، رئيس وزراء laquo;حماسraquo; المقال، والتي قال فيها إنه لا يأبه بما يحصل حتى لو تمت إبادة القطاع بأكمله، لتثير زوبعة من الانتقادات لا يتوقع أن تهدأ سريعا، ما لم تعلن laquo;حماسraquo; قبولها العودة الى التهدئة، بشروط إسرائيلية أقسى هذه المرة.

ولعل التطور الإستراتيجي الأهم في المعادلة الإقليمية ومحوريها، هو أن المعسكر العقلاني والبراغماتي العربي لم يعد سلبيا في مواقفه أو خجلا من توجيه اتهامات قاسية غير مسبوقة للمعسكر الإيديولوجي المضاد، وهو ما قد يمهد لبدء انحسار المد الإيراني، والتيارات والتنظيمات الموالية له في المنطقة.