وحيد عبد المجيد
عرف العالم الإسلامي عبر تاريخه، الذي يربو على 14 قرناً، نوعاً من الصراعات اصُطلح على تسميته فتنة. وكان أكثرها تأثيراً الصراع المذهبي السُني الشيعي الذي اعُتبرت بدايته فتنة كبرى أُعيد إنتاجها بأشكال متنوعة ودرجات متباينة عبر التاريخ.
ويحدث شيء من ذلك في العالم العربي الآن. فالصراعات الداخلية في بعض بلاده تبدو امتداداً quot;عصرياًquot; لتلك الفتنة الكبرى التي يُعاد إنتاجها في صورة جديدة.
كان العراق هو المعمل الذي تفاعلت فيه معادلة الصراع السُني الشيعي في صورته الراهنة، خلال لحظة اجتمعت فيها عوامل انتشاره في بلاد أخرى. فمن لبنان المهيأ بحكم تكوينه المجتمعي وطائفيته السياسية لتصاعد الصراع السُني الشيعي إلى الكويت التي اتخذت سلطاتها أخيراً موقفاً صارماً تجاه أزمة هددت بإشعال هذا الصراع... تبدو quot;الفتنة الكبرى الجديدةquot; في حال حركة لا تهدأ.
غير أن النزاعات الداخلية، التي تنطوي على فتنة سنية شيعية جديدة بشكل أو بآخر، تظل أقل خطراً مما يحدث في مصر اليوم ويحمل خطر تعاظم الاحتقان الديني- الذي بدأت مقدماته في أوائل سبعينيات القرن الماضي- ودخوله مرحلة نوعية جديدة.
فالمستوى الذي بلغه هذا الاحتقان ينذر بفتنة قد تكون هي الأكبر على الصعيد العربي. فإذا صح أن الصراعات التي تنتشر في عدد من البلاد العربية على خلفية سُنية شيعية تُعيد إنتاج الفتنة الكبرى التاريخية، فليس أقل صحة القول بأن الاحتقان الديني المتصاعد في مصر ينذر بإنتاج الفتنة الأكبر والأشد خطراً. ويعود ذلك لسببين. أولهما موقع مصر ووزنها السكاني الجغرافي، وبالتالي تأثيرها الممتد عبر الزمن في منطقة تظل هي في مركزها بغض النظر عما آل إليه حجمها السياسي ودورها الإقليمي الآن.
أما السبب الثاني فهو أن إعادة إنتاج الفتنة الكبرى ارتبطت بظرف غير طبيعي هو الغزو الأميركي الذي أدى إلى تفكيك الدولة وشيوع الفوضى في المجتمع العراقي.
ويعني ذلك أن نشوب quot;الفتنة الكبرى الجديدةquot; ارتبط بعامل خارجي طارئ صب الزيت على نار كامنة كان ممكناً ألاَّ تشتعل في المرحلة الراهنة. أما في مصر فلم يكن هناك أثر خارجي يُذكر في الفتنة التي يأتي زيتها كله تقريباً من الداخل. وهذا هو مصدر خطرها الذي يبدو أكبر من فتن عربية أخرى تعتبر quot;توابعquot; لزلزال الغزو الأميركي للعراق.
فقد اشتعلت هذه الفتن في أجواء اقترنت بتحول العراق من حاجز أمام إيران إلى معبر أو جسر لمشروعها الذي تختلط فيه الطائفية بالعرقية بالسياسة على نحو يجعله مُيسَِّراً لعملية إعادة إنتاج الفتنة الكبرى في صورة جديدة ومغذياً للصراعات الداخلية المرتبطة بهذه العملية.
ولما كان العامل الخارجي الميَّسِر للتفاعلات التي أعادت إنتاج هذه الفتنة هو سياسي واستراتيجي قبل كل شيء، فقد انعكس ذلك على طابع هذه الفتنة. فهي سياسية بالأساس، من دون أن يعني ذلك تجريدها من أي طابع ديني. فالصراع الداخلي الرئيسي في العراق يدور حول السلطة وما يقترن بها من مقومات الدولة الجديدة ودستورها ونظامها السياسي وحصة كل فريق في هذا كله.
لذلك تكتسب الأزمة الخاصة بتشكيل الحكومة الجديدة وميلادها الصعب المتعثر منذ نحو سبعة أشهر أهمية أكبر بكثير من أي نزاع ذي طابع مذهبي quot;نقيquot;. أما الأزمة المصرية فهي تدور في الأساس حول الدين، إذ تنطلق منه وتصب في مجراه، دون أن تخلو من أبعاد سياسية. فقد أصبح معظم المصريين يعتبرون أنفسهم مسلمين ومسيحيين أولاً، ويديرون علاقاتهم على هذا الأساس ويعالجون مشاكلهم في هذا الإطار.
وهذا هو ما يجعل خطر الأزمة المصرية أعظم من غيرها. فالصراع الديني هو أخطر أنواع الصراعات الداخلية المجتمعية على الإطلاق. كان كذلك عبر التاريخ، وما زال. وهو أكثر خطراً من أي صراع سياسي، بما في ذلك الصراعات التي يحدث الاصطفاف فيها على خلفية دينية أو مذهبية على النحو الذي نراه في عملية إعادة إنتاج الفتنة الكبرى القديمة.
ولذلك لا يكون صعباً احتواء أزمة تنتج عن كلام يسيء إلى السُنة صدر عن ناشط شيعي في الكويت، بخلاف الأزمة التي تزامنت معها في مصر ونتجت عن تساؤل طرحه رجل دين مصري مسيحي واعتبره المسلمون تشكيكاً في القرآن الكريم.
وفضلاً عن أن الأزمة الدينية quot; النقيةquot;، أي التي ترتبط بقضية في صميم الدين والعقيدة، هي أخطر بالضرورة من أزمة سياسية ذات خلفية مذهبية، تبدو الفتنة المصرية الآخذة في التوسع أشد خطراً لأن الأزمة المترتبة على كلام الأنبا بيشوي (سكرتير المجمع المقدس والرجل الثاني في الكنيسة المصرية) تمثل تطوراً نوعياً في الاحتقان الديني المتزايد منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي.
فليس جديداً ما قاله كويتي شيعي في حق السيدة عائشة أم المؤمنين، لأنه أعاد صوغ حديث الإفك الذي استُدعي كثيرا في نزاعات مذهبية عبر التاريخ. لكنه جديد نوعياً حديث الأنبا بيشوي عما إذا كانت آيات تتحدث عن المسيحيين أُضيفت إلى القرآن الكريم في عهد عثمان بن عفان. فهو يثير قضية تتعلق بالعقيدة، وتتصل بالإيمان الديني، أي بأمرين خلقا صراعات فجَّرت حروباً دامية ويمكنها إشعال نيران تستعصي على محاولات الإطفاء إذا لم يُغلق باب الجدل فيهما. فكل كلمة في مثل هذا الجدل تشبه قطرة زيت تُصب في أرض قابلة للاشتعال بفعل تراكمات الأزمة الممتدة، التي يُطلق عليها في مصر quot;الفتنة الطائفيةquot;، على مدى ما يقرب من أربعة عقود كاملة. فقد حدث الصدام الأول بين مسلمين ومسيحيين في القاهرة (في منطقة الزاوية الحمراء) في عام 1972 على خلفية محض دينية وفي مجتمع كانت منابع السياسة قد جُففت فيه قبل ذلك بما يقرب من العقدين.
وكان الجفاف السياسي أحد العوامل المهمة التي ساهمت في خلق هذه الفتنة، لأنه أدى إلى فراغ ملأه الدين الذي غرق فيه معظم المصريين، وما زالوا. وهذه حال أخطر بكثير من تجليات الفتنة الكبرى في صورتها الجديدة المرتبطة بصراعات سياسية ذات خلفية مذهبية.
وبالرغم من أن الأجواء السياسية التي تحدث فيها مثل هذه الصراعات تبدو بدائية إلى حد كبير، فهي أقل خطراً من تلك التي ما زال أثر الجفاف السياسي واضحاً فيها. فما يسمى حراكاً سياسياً في مصر إنما يحدث في قشرة على سطح مجتمع تطغى فيه الهوية الدينية في أكثر أشكالها تعصباً على ما عداها. وفي هذا quot;الحراكquot;، تجذب التظاهرات الدينية ضد أسلمة امرأة أو تنصير رجل، مشاركينَ أكثر من أية تظاهرة سياسية. وهذا هو، تحديداً، ما يجعل الفتنة المصرية التي دخلت منعطفاً جديداً مرشحة لأن تكون هي الأكبر في عالم عربي لا ينتج في وقتنا الراهن أكثر من الفتن.
التعليقات