خيرالله خيرالله

كيف يمكن تفسير التصرفات الأخيرة للنظام السوري تجاه لبنان واللبنانيين، وهي تصرفات تضرب عرض الحائط بالوفاق الوطني في الوطن الصغير، ولا هدف واضحاً لها سوى اظهار مدى عمق العلاقة الإيرانية- السورية من جهة، ومدى قدرة طهران على التأثير على دمشق من جهة أخرى.
تمثل هذه التصرفات أفضل تعبير عن العجز في مجال فهم أن المحكمة الدولية التي تنظر في جرائم، سبقت اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، وفي الجريمة نفسها وما تلاها من جرائم استهدفت أشرف اللبنانيين المؤمنين بالعروبة الحقيقية، جزء لا يتجزأ من الوفاق الوطني. فالسعي إلى التخلص من المحكمة عن طريق افتعال قضية شهود الزور، ومذكرات التوقيف المضحكة- المبكية الصادرة عن القضاء السوري، جزء لا يتجزأ من محاولة انقلابية، لم تستكمل فصولها بعد، تستهدف تحويل لبنان إلى رأس حربة للمحور الإيراني- السوري لا أكثر، بل التخلص من لبنان نفسه. أكثر من ذلك، يمكن وصف مذكرات التوقيف بأنّها أفضل تعبير عن الأزمة العميقة التي يعاني منها النظام السوري الذي لا يدرك أن عليه التعاطي بطريقة مختلفة مع المحكمة الدولية، في حال كان يعتقد فعلاً أن لا علاقة له بالجرائم التي تعرض لها لبنان، على رأسها جريمة اغتيال رفيق الحريري... وأنه على استعداد للتعاطي مع مؤسسات الدولة اللبنانية بدل انتظار أي فرصة للانقضاض عليها. ربما تكمن مشكلة النظام السوري في أنه لم يستوعب أن الماضي قد مضى وأن عليه الانتهاء من عقدة لبنان والانصراف إلى معالجة الوضع الداخلي السوري بدل الهرب منه إلى الخارج...
أبعد من مذكرات التوقيف السورية التي لا تقدم ولا تؤخر، يبدو مطلوباً أن يستخدم لبنان في لعبة إيرانية، أكثر مما هي سورية، لا علاقة له بها من قريب أو بعيد تقوم على المتاجرة به وبشعبه وبالاستقرار الداخلي من أجل أن يقول النظام الإيراني أن لديه أوراقاً يلعبها في المواجهة الدائرة بينه وبين المجتمع الدولي. من هذا المنطلق، نجد ذلك الاصرار لدى laquo;حزب اللهraquo; على التخلص من المحكمة الدولية، نظراً إلى أن نجاحه في ذلك يوفر له الهيمنة على لبنان، كما يوفر لكل من شاء، حمل رخصة تسمح له بمتابعة الاغتيالات والتفجيرات من دون حسيب أو رقيب من أي نوع كان...
كلما مرّ يوم تزداد أهمية الوجود الإيراني في لبنان بالنسبة إلى طهران. والمشكلة الحقيقية لـraquo;حزب اللهraquo; تكمن في أنه حتى لو شاء أن يأخذ في الاعتبار التوازنات الداخلية اللبنانية، نظراً إلى أن عناصره لبنانية، فإنه مضطر إلى وضع مصلحة النظام في إيران فوق كل مصلحة أخرى، بما في ذلك مصلحة أبناء الطائفة الشيعية الكريمة في لبنان، وهي طائفة تضم من دون أدنى شك خيرة اللبنانيين الشرفاء الذين يتصدون بصدورهم العارية لسلاح الحزب الإيراني وتوابعه، ولمحاولات إثارة الغرائز المذهبية التي لا تخدم سوى إسرائيل.
ثمة من سيقول أن لا مصلحة للحزب في إثارة الغرائز المذهبية. الجواب أن ذلك كان يمكن أن يكون صحيحاً لو كان laquo;حزب اللهraquo; يمتلك حرية قراره من جهة، ولو كانت إيران تتوقف عند هذا الاعتبار، الذي يصب في مصلحة دولة عنصرية اسمها إسرائيل، من جهة أخرى. لو كانت إيران مهتمة بتفادي إثارة الغرائز، لما فعلت ما فعلته في العراق عبر ميليشيات الأحزاب المذهبية التابعة لها. ما شهدناه في العراق، حيث خاضت إيران الحرب إلى جانب الأميركيين من دون أي نوع من العقد، يتكرر للأسف الشديد في لبنان. ما يحصل في لبنان، خصوصاً عن طريق السعي إلى الغاء المحكمة الدولية، تطور في غاية الخطورة نظراً إلى أنه يتبين يومياً أن المطلوب في نهاية المطاف وضع اليد على لبنان. مطلوب استخدام الجرائم التي استهدفت أشرف اللبنانيين والعرب، من رفيق الحريري، وباسل فليحان، إلى اللواء فرنسوا الحاج، والنقيب سامر حنا، مروراً بسمير قصير، وجورج حاوي، وجبران تويني، ووليد عيدو، وبيار أمين الجميل، وانطوان غانم، والرائد وسام عيد، والشهداء الأحياء مروان حماده، وإلياس المر، ومي شدياق، والرائد سمير شحاده، كي يفهم اللبنانيون أخيراً أن بلدههم غير قابل للحياة ولا يمكن إلا أن يكون تحت الوصاية. أكثر من ذلك، عليهم أن يستوعبوا، استناداً إلى الحسابات الإيرانية، أن لبنان انتقل من خلال اغتيال رفيق الحريري والأحداث التي تلته من الوصاية السورية إلى الوصاية الإيرانية مع بعض المراعاة من طهران لدمشق.
لن يأتي الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد إلى لبنان سوى من أجل تثبيت المعادلة الجديدة القائمة على فكرة أن الوطن الصغير بات جزءاً من الامبراطورية الفارسية، وأن وضعه لا يختلف في شيء عن وضع مناطق عراقية معينة، وأن الفشل الإيراني في غزة، بسبب الوضع الجغرافي المختلف للقطاع، عوضه نجاح laquo;حزب اللهraquo; في ترويض اللبنانيين مستخدماً سلاحه غير الشرعي الموجه إلى أشرف الناس من كل الطوائف والمذاهب، وقدرته على التوسع على كل الجبهات بفضل الامكانات المالية الكبيرة التي يمتلكها، فضلاً عن شراء أدوات من كل الطوائف والمذاهب والمشارب. تسمح له تلك الامكانات المالية بربط البقع الأمنية التي يسيطر عليها ببعضها البعض عبر شراء الأراضي في مناطق معينة على حساب المسيحيين والدروز تحديداً...
هل ينجح المشروع الإيراني في لبنان بفضل laquo;حزب اللهraquo; وأدواته المعروفة من مستوى النائب ميشال عون الذي يتباكى على لبنان في حين أنه يفعل كل شيء من أجل تدمير مؤسسات الدولة اللبنانية، وتهجير أكبر عدد ممكن من المسيحيين من أرضهم؟ الجواب بكل بساطة أن ليس أمام اللبنانيين سوى الصمود. المحكمة الدولية الخاصة بلبنان والتي أقرها مجلس الأمن، بموجب قرار اتخذ تحت الفصل السابع، رمز من رموز المقاومة اللبنانية.
ما قد يساعد لبنان على الصمود، خصوصاً في وجه الفتنة الطائفية والمذهبية التي تشجع عليها التصرفات الإيرانية في لبنان، أن الوطن الصغير عرف دائماً وفي أحلك الظروف المحافظة على توازن ما. ربما كان أفضل من لخص ذلك رئيس مجلس الوزراء السابق نجيب ميقاتي الذي قال في خطاب ألقاه قبل أيام laquo;من الخطأ الجسيم الاعتقاد أن فريقاً لبنانياً واحداً قادر على امتلاك القرار في لبنان، لأنّ الأحداث أثبتت أنه عندما سعى فريق إلى الاستئثار أو الهيمنة أو التسلط، كانت النتيجة صدامات ومواجهات وحروب أهلية هزم فيها المسلمون والمسيحيون على حد سواء... وكان الخاسر الاكبر لبنانraquo;. ولكن هل لدى laquo;حزب اللهraquo; ومن هم خلفه مشكلة في أن يكون الخاسر لبنان؟
من المفيد تذكير laquo;حزب اللهraquo; وعبره إيران أن لبنان ليس لقمة سائغة، وأن هناك توازنات داخلية لا يمكن الاستخفاف بها، وأن التهويل على اللبنانيين، والتهديد بزعزعة السلم الأهلي لن يؤثرا على إرادة المقاومة مهما بلغ عدد الصواريخ الموجهة إلى القرى والمدن اللبنانية، ومهما زاد عدد عناصر ميليشيا الحزب الإيراني في بيروت وحتى في طرابلس، ومهما بلغت بذاءة ميشال عون ومن على شاكلته وبعض نواب laquo;حزب اللهraquo;. تظل إرادة الصمود والمقاومة أقوى. فلبنان، عن طريق تمسكه بالمحكمة الدولية، لا يدافع عن نفسه فحسب، بل يدافع أيضاً عن فلسطين والبحرين واليمن، وكل الشرفاء من العرب، وكل دول المنطقة، خصوصاً في منطقة الخليج المهددة بالفتنة المذهبية ذات المصدر المعروف جداً وجيّداً...