عيد بن مسعود الجهني
قد يتساءل البعض: ما سبب هذا الفساد الذي ينتشر في عالم اليوم، انتشار السوسة في الخشب، ولا تكاد تخلو منه دولة او مؤسسة؟ وأرى أن السبب هو هذه المادية التي يغرق فيها العالم، فعالم اليوم يكاد يتجرد من الروحانية والإنسانية السمحة فأصبح شعار الدولة هو (المنفعة) وشعار الأفراد (نفسي نفسي) وعالم هذه حاله بالتأكيد أن أفراده لا يعترفون بحدود في إشباع رغباتهم ولا يراعون محظوراً في تحقيق مآربهم وتصبح كلمة (إلزام) كلمة (ممجوجة) وكلمة الضمير تثير (السخرية).
وأمام هذا الطوفان المادي المجنون يصبح القانون قاصراً عن ملاحقة المفسدين وتصبح المؤسسات الدولية التي تنادي بالطهر والنزاهة والشفافية مشروخة الصوت لا يستمع إليها احد، فصندوق النقد الدولي الذي يدّعي انه يدعم الجهود المبذولة لمكافحة الفساد، لا سيما في الدول الفقيرة التي تحصل على قروض من البنك الدولي الذي يسيطر إلى حد كبير على توجيه اقتصاداتها، يعترف بصعوبة تتبع حركة المفسدين على رغم أن البنك يقدم قروضاً لمشاريع محددة ويمكنه التأكد من قواعد مكافحة الفساد في تلك المشاريع بإشرافه، لكن الحكومات الفاسدة التي تتلقى مساعدات البنك غالباً ما تعمل على بعثرة تلك الأموال لمصلحتها على رغم الشروط الصريحة التي يفرضها البنك، وهذا ما يستدعي منه متابعة سير القروض لمنع الفساد أو الحد منه في تنفيذ المشاريع لتحقق أهدافها وأغراضها.
وهكذا فإن الرشوة - على رغم مساعي صندوق النقد الدولي وغيره مثل البنك الدولي واتفاقية البلدان الأميركية لمكافحة الفساد ومنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي وغرفة التجارة الدولية التي عملت على معالجة الرشوة ومنع استخدام المنشآت المتعددة الجنسيات للرشوة في سياق نشاطاتها في الأعمال في الدول الأجنبية - لا تزال منتشرة تسري في عروق معظم العقود والصفقات مع شركات تلك الدول ومنها الدول العربية بل هي في مقدمها!
الفساد يستشري على رغم كل الشروط التي يضعها البنك الدولي ومعظم الوكالات الدولية في شأن العطاءات التنافسية الدولية التي تستخدم أموالاً حكومية من أجل التوريدات الحكومية من سلع وخدمات ومشاريع، على رغم أن منظمة التجارة الدولية تشرف على القواعد المتعلقة بالتوريدات الحكومية، لا سيما في ما يتعلق بقواعد الشفافية لحمايتها من الفساد.
وعلى رغم كل تلك المحاولات لمناهضة الفساد ومنها بالطبع ما تقوم به الأمم المتحدة، إلا أنه ليس هناك ما يمكن وصفه بأنه علاج ناجع سريع لآفة الفساد الذي تختلف حدته من دولة إلى أخرى، وتتصدر الدول العربية للأسف قائمة الدول الفاسدة عالمياً، ولذا فإنها تحتاج إلى إصلاحات جذرية في أنظمتها وقوانينها القضائية لضمان النزاهة واستقلال السلطة القضائية واختيار الكفاءات والخبرات المتميزة لإدارة هذه السلطة، وينطبق ذلك على الجهات الإدارية، لا سيما أجهزة الخدمات مثل الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي والعمل وغيرها لزيادة حوافز الأمانة وحسن الأداء.
كما يستلزم الأمر دعم مؤسسات المجتمع المدني لتؤدي دورها الرقابي ويشمل ذلك فرض القوانين التي تكافح الفساد والتي أصبحت لا تساوي الحبر الذي كُتبت به في الدول العربية، وفي مجال المناقصات التطبيق الدقيق لقانون المزايدات التنافسية للجميع بحيث لا تطغى المحسوبية في ترسية المشاريع على شركات ومؤسسات ورجال أعمال محددين، وهو ما يُلحق الضرر الجسيم بالمجتمع الاقتصادي، لا سيما شريحة الشركات المتوسطة والصغيرة التي تُحرَم من تلك المشاريع وبالتالي يتأثر جسم الاقتصاد كله.
والحال المزرية هذه يجب ان تُفعّل القوانين الصادرة لمحاربة الفساد ومنها (من أين لك هذا؟) الذي تحول إلى قانون (هذا لك وهذا لي). ومن الشواهد أنه في إحدى الدول العربية الغنية شمر احد المسؤولين عن ساعديه وقام بتبني صياغة هذا القانون وبالفعل صدق الرجل وعده، لكنه كان هو أول من سرق ونهب حتى ضاقت البنوك بأمواله المسروقة من دم الشعب، وتعددت قصوره ويخوته وأبراجه الشاهقة في دول عدة في أنحاء العالم، ولذا فإن مثل هؤلاء يجب ألا يستثنوا من المحاسبة والعقاب، فإن عدم مساءلتهم ومحاسبتهم جعل احدهم يلقي دروساً عنوانها (كيف تسرق وطنك؟)
إذاً، فغياب مسؤولية الرقابة الدقيقة يدخل الدول في متاهات عظيمة وتنهب ثرواتها على أيدي بعض مواطنيها الذين تقلدوا الأمانة فخانوا الله قبل ان يخونوا ضميرهم ووطنهم وأمتهم ومن قلّدهم المنصب.
لا شك في ان ضعف هياكل الدولة الادارية والمالية والقضائية والرقابية جعل الفاسدين الذين وثقت بهم القيادات وائتمنتهم على تحمل المسؤولية، يضيعون الأمانة فسخروا سلطتهم على الوزارات او المصالح والهيئات الحكومية من اجل تحقيق أغراضهم الخسيسة فبددوا أموالاً كثيرة انتهت إلى جيوبهم وحرمت منها الدول والمواطنون غنيهم وفقيرهم في ظل غياب (قوانين العقاب).
فهؤلاء الفاسدون، بدلاً من عقابهم والتشهير بهم وردّ ما استولوا عليه، نراهم بيننا يتقدمون الصفوف وينالون أعظم الاحترام وأجل التقدير وقد يغادرون منصباً ما وينتقلون إلى آخر وهكذا دواليك، هذا لأنهم فاسدون، وهذا التناقض العجيب والمريب سائد في وطننا العربي الكبير من المحيط إلى الخليج.
ومع هذا نتحدث عن وجود أجهزة للرقابة السابقة والرقابة اللاحقة والرقابة المباغتة من خلال وزارات المال ودواوين المحاسبات والرقابة وغيرها، ولكن وجود هذه الأجهزة شيء والتطبيق العملي شيء آخر، فمثلاً الرقابات السابقة بيد عدد قليل من الموظفين معروف أداؤهم ورقابتهم ويفترض ان نتائجها واضحة لكل ذي عين بصيرة، والرقابات اللاحقة تراقب بعد مرور سنين ضياع ولو دولاراً واحداً ضاع ضمن أرقام عدة، ولكن النتيجة لكل الرقابات لا تزيد على (صفر).
إذاً، هذه الرقابات كلها غير فاعلة وليس باستطاعتها فعل الكثير لكبح جماح الفساد المستشري في أجهزة الدول العربية، مع غياب كل الرقابات بما فيها رقابات دواوين المحاسبات. ومما يزيد الطين بلة دفن قوانين من أين لك هذا، حتى وسائل الاعلام التي تتحدث عن الفساد فإنها تذكره على استحياء ذاكرة من يستولي على ألف دولار وتنسى من يستولي على بليون دولار.
ولو قدر للعالم العربي وقامت فيه كل المؤسسات الفاعلة ضد الفساد بواجبها لانحصرت حدته، ومنها السلطات القضائية والرقابية والمحاسبية والمجتمع المدني ووسائل الاعلام والحملات المباغتة التي تستهدف الوزارات والهيئات الحكومية لاجتثاث الفساد.
لو حدث هذا وتحسن اداء جهات الدولة كلها لأمكن الحد من الفساد الكبير الذي يديره أشرار كثر في هذا الزمن نسميهم بطانة السوء جاء بهم القادة لحمل الأمانة، فخانوا الله وخانوا ولاة الأمر كما خانوا أوطانهم، وقد تضيع الثروات والديار على أيديهم.
ويصبح من واجب ولاة الأمور اختيار أهل العلم والصلاح والعفة والأمانة والصدق والوطنية من أهل البطانة الصالحة القادرين على ابعاد بطانة السوء. وقد يلوم لائم ولاة الأمر على اختيار هذا الصنف الأخير، ولكني أجد لهم العذر، ذلك أن الفرد من البطانة الفاسدة يستشرف للمناصب، وعنده القدرة على تلميع نفسه، والقدرة على التقرب من أصحاب الشأن، وإظهار نفسه بالمصلح القويم التقي العفيف، الحادب على مصلحة ولي الأمر.
أما الصالحون فإن طبيعتهم الحياء والبعد عن الأضواء والزهد في المراتب والمناصب، فالوصول إليهم صعب، وإقناعهم بتولي المناصب عسير، ولذلك فان على ولاة الأمر ان يسعوا لمثل هؤلاء سعياً ويبحثوا عنهم بدأب ويحرصوا على تقريبهم ففي ذلك نجاة لهم ومكاسب لا تعد للبلاد والعباد.
* رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية
التعليقات