بدر عبدالملك

يمر الآن ما يقرب الخمسة والثلاثون عاما على البحرين دون ان تشهد المفهوم الدارج كمصطلح الانتفاضة الشعبية معالجة جدية ndash; سلمية او مسلحة ndash; غير ان المولعين بالتلاعب بالتعريفات التاريخية والسياسية للمصطلح، يشعرون دائما مدى قيمة التلاعب والتضخم لدى كل حركة سياسية متنوعة في دوافعها ومضمونها بإضافة هالة من laquo;القداسةraquo; لحركتها، فتقوم بتوظيف واستخدام مفاهيم ومصطلحات تجد فيها الجاذبية السياسية والعاطفية والنفسية لدى الوعي العام في شارع ثقافته السياسية والفكرية محدودة، اللهم ذلك الضجيج المفتعل في البيانات والاعلانات والكتابات الجدارية، وكرنفالات الخطب والمقالات، كلها لن تنفع اذا لم نسمع بهدوء ونشاهد حركة الواقع والظواهر الظاهرة والدفينة التي لم تكتمل للخروج الى السطح.
تتحفنا دائما ومازالت عبارة وصف laquo;الانتفاضة الدستورية المباركة!!raquo; فلا نفهم من اين جاءت تلك المباركة؟! فلا نجد ثقافة وخطاب التقديس لتلك الكلمة الا الخطاب الديني، الذي حمله لنا في التسعينات اتجاه الاسلام السياسي! فنفهم توصيفاته وثقافته فهو بطبيعته يسرق كل التاريخ لصالحه من كنز الحركة الوطنية التي سبقته، ويذهب ابعد من ذلك، فيسرق التاريخ كله طالما هو يبدأ من laquo;نضالاته الكبرى!raquo; هو وينتهي من حيث استحقاقاته!! هو ايضا كل ذلك، ونستطيع فهمه جيدا لإيديولوجية فلاحية جذورها الدينية وفكرها السياسي لا يخرج من تلك العباءة الريفية، غير ان البلاء وكل البلاء أن تصاب بجرثومة تلك المصطلحات وتقبلها تيارات يسارية وشخوص كانوا بالامس القريب ينادون laquo;بالكفاح المسلحraquo; بل ولا بأس بإيمانهم بماو القديم باستبداله بماو جديد، حيث بإمكانهم الانطلاق بمسيرة الانتفاضة الفلاحية من الريف الى المدينة، ونسوا ان المسافة من الدراز حتى المنامة لا تتعدى كيلومترات، فهي لا تشبه الريف الصيني لا مساحة ولا مجاعة، فبعض بيوت الريف البحريني اكثر رفاهية من احياء المدن التاريخية، فلا داع ان نمتثل للامثلة الحمقاء عن تصنيف فقراء الريف بأثرياء المدن والعكس، ففي ريفنا فقر وثراء وفي أحياء مدننا فقر وثراء ولكن المسألة باتت نسبية..
من فضل من اليسار المتطرف التشبث بعبارات laquo;الانتفاضة الدستورية المباركةraquo;!! فهنيئا له تلك المباركة، التي فرضها الاسلام السياسي القادم من عمق الريف في حركة التسعينات، فنندهش من الانتقال من عبارة الحركة الدستورية الى عبارة الانتفاضة! اذ كل ما نعرفه نحن بأن حركة العرائض لم تكن انتقاضة في بدايتها ولا نهايتها، وكتب عن مطالبها الكثير وشاركت جماهير شعبنا (وليس انتفاضة شعبنا) حول عملية جمع العرائض والتواقيع عليها، ولكن تلك الحركة السلمية تم طعنها من الخلف لتيارات دينية نفد صبرها، ووجدت ان تلك العملية لا تحقق لها الاهداف المطلوبة، فانفردت لوحدها بمشروع المطالب الدستورية، منتقلة من الخط السلمي الى النهج العنيف، فكانت المواجهة بين السلطة والحركة الدستورية laquo;لماذا اطلقت على نفسها الانتفاضة عنوة؟raquo; لمجرد عصيانات وسخط واحتجاجات جزئية لم تمس البنية الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، ولكنهم ظلوا يصرون على تسمية الانتفاضة لكون الانتفاضة في ذاكرة شعبنا لها ايقاع وتأثير تاريخي مختلف، فكلا الانتفاضتين لم تكونا طائفيتين ndash; وهذا هو خداع حركة التسعينات الدينية ndash; محاولة تضليل الرأي العام بفئوية تحركها ومضمون حركتها الفكرية والسياسية، تلك المواجهة بين السلطة والحركة laquo;الانعزالية laquo;التكتليةraquo; لم تكن متوازنة في عملية الصراع، فشهدت انحسارا بعد عام 1996 داخل صفوفها، وهي التي تاقت الى جر الحركة الوطنية برمتها الى ذيلها لشعورها بان اليسار لا يمتلك الا قدرة على جمع التواقيع، فيما هم حركة جماهيرية في الريف والمدينة، ويمتلكون مفاتيح التأثير السحرية في الشارع، وقادرين على إشعال البلاد بضجيجهم السياسي وحرائقهم المتناثرة، محاولين ركوب موجة laquo;الوطنيةraquo; في الداخل والخارج، بزج وجوه وعناصر وطنية ndash; تم خداعها بعض الوقت ndash; في عملية الصراع والتناقض، فهذا سمح للحركة الطائفية ان تضع مساحيق دعائية في الخارج من خلال تلك الوجوه بمسألتين، الاولى قضايا حقوق الانسان والثانية بطمس طائفية الحركة، محاولة الفصل ما بين طبيعتها ومطالبها، التي بدت شرعية في البداية طالما انها التقت مع مطالب الاتجاهات الاخرى المعبرة عن شريحة شعبية وفئوية مختلفة. بقرار قبول laquo;الانتفاضة الدستورية المباركة!raquo; بالانفراد للغناء وحدها، تكون الحركة قد اعلنت موتها البطيء، وازداد ذلك الشعور في الخارج بعد الاحباط الداخلي باعتقال ونفي بعض رموز تلك الحركة الاحتجاجية والمطلبية.
فلماذا يتم التلاعب بتاريخنا السياسي الوطني المشترك، من خلال اضافة مساحيق عبارة الانتفاضة، لحركة اجندتها الظاهرة كانت دستورية ولكن الاجندة الاستراتيجية ليست كذلك، ولكنها لا تمتلك الشجاعة ولا الوضوح للإعلان عنها، وان كانت زلة اللسان والغرور تدفعهم الى الافصاح عن مبدأ laquo;تداول السلطةraquo; بحجة ديمقراطية، وهو حق يراد به باطل، فالديمقراطية عند طالبان وغيرهم ليست الا الاسلام السياسي الخفي، فلا توجد حركة سياسية اسلامية صادقة بشرعية الممارسة الديمقراطية، لكنهم طالما خارج السلطة فإنهم يناورون بمبدأ تداول السلطة، والتي في النموذج الايراني المعاصر يدلل بكل وضوح انه نظام شمولي حتى النخاع! فهل ننتظر ديمقراطية بحرينية ndash; بعد عمر طويل ndash; خليجية مبهرة بلعبة تداول السلطة ولكن بدون مشانق لأعناق ndash; الشيوعيين ndash; التي ماتزال المرجعية laquo;الوطنيةraquo; تكرهها لكونها ليست كتلة laquo;إيمانية!raquo; هل ننتظر ذلك اليوم، ام نجلس بهدوء يتسم بالواقعية لمناقشة معنى توازن القوى والتناقضات والعلاقات السياسية وفن العمل الجماهيري وتطور الوعي التاريخي وهل تجدي او بإمكان معارضة اليوم، ان تكون معارضة مشاغبة ثورية وجهادية laquo;استبدلت بإيمانية لحساسية الجهادية وطائفية الخطاب السياسي لدى الطرفينraquo; على طريقتها، ام ان التاريخ له لغته وخطابه وتفسيراته البعيدة عن النص الميت والمفاهيم الجامدة؟ التي تجاوزها الوقت، غير ان عبدة الاصنام السياسية تظل تقدس شياطينها على انها ملائكة لا تخطئ، وان التاريخ مجرد إعادة قراءة بليدة وليس درسا للاستيعاب والتمحيص في المسلمات جميعها. الهوس والحقد السياسي لا يقدم للتاريخ عبرة، وانما لوحة تراجيدية مضحكة!