علي حرب

كانت لي زيارة قصيرة إلى البحرين للمشاركة في ندوة فكرية، أقيمت في مركز الشيخ إبراهيم آل خليفة للثقافة والبحوث، تكريماً للفيلسوف الجزائري محمد أركون الذي رحل عن عالمنا منذ أسابيع. وفي كل مرّة أزور البحرين أجد هذا البلد يحقق المزيد من التقدم في مسيرته التنموية، على غير صعيد، هو الذي كان سباقاً إلى الانخراط في عالم الحداثة بين بلدان الخليج.

على الصعيد السياسي كانت الانتخابات النيابية، التي جرت مؤخراً، شاهداً على التحول نحو الديمقراطية، إذ المعارضة حصلت على مقاعد جديدة في البرلمان.

بالطبع هذا التطوّر يتمّ بصورة بطيئة، وفقاً لتركيبة المجتمع وظروفه، ذلك أن الديمقراطية ليست مجرد صيغة جاهزة يجري اقتباسها أو تطبيقها، وإنما هي فكرة حيّة يعاد بناؤها، على سبيل التطوير والإثراء، في أتون التجربة وميادين الممارسة، بقدر ما يجري تصنيعها بحسب الخصوصيات الثقافية والمجتمعية.

والأمل أن يستخلص أهل البحرين الدرس، فلا يقعوا في ما وقع فيه أهل لبنان، قبل عقود، إذ كنا، بسبب العمى الايديولوجي، نطالب بحريات ديمقراطية، طوباوية، لا وجود لها في أي مكان، فيما كان الهارب من جوْر حكومته أو فقر بلده يجد في لبنان منبراً ومورداً وملاذاً.

على الصعيد الاقتصادي هناك نمو متصاعد ومطرد. يتجلى ذلك في الطفرة العمرانية والتحولات ذات الطابع الحضري والمديني. ومع أن مملكة البحرين هي أقل حظاً، في الموارد، من أشقائها في قطر والإمارات العربية المتحدة، فإنها تعوض عن هذا النقص في خلق الموارد، خاصة في الأعمال البنكية والخدمات المصرفية، إذ هي رائدة في هذا المجال.

وهذا أحد مصادر التنمية التي هي إما استثمار للموارد الطبيعية، أو خلقها إن كانت شحيحة أو معدومة أو في طريقها إلى النفاد.واليابان تقدم مثالاً حيّاً ورائداً في إتقان لغة الخلق والابتكار.ولا تنمية من غير ذلك.ولا يعني ذلك أنه لا توجد في البحرين مناطق أو هوامش تعاني من الفقر والحرمان.

ولكن السعيَ من أجل تطوير الأوضاع وتحسين شروط العيش، الذي هو حقّ مشروع، إنما هو سيرورة متواصلة، وعملية مركّبة، بقدر ما هو ثمرة تحوّلات وإجراءات تتم بصورة سلمية ومتدرّجة، بالجهد والمراس والابتكار والمشاركة في أعمال البناء والإنماء، في مختلف حقول المجتمع المنتجة وقطاعاته الفاعلة.

وأما محاولات تغيير الأوضاع بالعنف، فمآله، خاصةً في هذه الأيام، هدر الثروات والخراب، كما تشهد التجارب في غير مكان.كانت زيارتي بدعوة من وزيرة الثقافة البحرينية الشيخة مي آل خليفة التي تضطلع بدور فعّال، بارز ورائد، في مجال الثقافة، بتوجيه ودعم من الملك وكبار المسؤولين الذين تركوا لها حرية العمل والمبادرة.

فقدمت نموذجاً ناجحاً في إدارة العمل الثقافي. تشهد على ذلك الانجازات التي تحققت بعد استلامها وزارة الثقافة، مثل وضع حجر الأساس للمسرح الوطني، أو الحصول على جائزة laquo;الأسد الذهبيraquo; في laquo;بينالي البندقيةraquo;، أو الحصول على امتياز استضافة الجائزة العالمية للتراث عام 2011.

وهي نجحت بشكل خاص، في التنمية الثقافية، بجانبها الأهلي والمدني، إذ هي وقفت وراء تأسيس laquo;مركز الثقافة والبحوثraquo;. وقد تحول هذا المركز ومحيطه في مدينة laquo;المحرّقraquo;، بالفكر الحيّ والجهود الخارقة والعمل البنّاء.

من جانب الشيخة وفريق عملها، إلى قرية تراثية (على غرار أصيلة المغربية) باتت بمثابة متحف تراثي، ومعلم سياحي، ومنتدى فكري تنويري يستقطب المثقفين من أدباء وفنانين ومفكرين وإعلاميين، من مختلف الأقطار العربية، وأحيانا من البلدان الأجنبية. بذلك يعد المركز إطاراً جامعاً بمرتكزه الوطني ونطاقه العربي وبعده العالمي.

من بين الذين التقيت بهم هذه المرة، أثناء وجودي في البحرين، السيد ضياء الموسوي الذي هو عضو في مجلس الشورى. وكان الموسوي رجل دين معمّم منذ يفاعته، كما كان منخرطاً في المشروع الإسلامي الأصولي يدافع عنه بحماس شديد واندفاع كبير.

ولكنه أخذ يتحول عن قناعاته ويفيق من سباته، بعد أن اكتشف أن هذا المشروع لن يكون سبيلاً للإصلاح أو خشبة للخلاص، الأمر الذي حمله على خلع العمّة والعودة إلى زيّه المدني. والمهم في الأمر، أن الموسوي بعد خروجه من المشروع الديني الذي يفرق إلى المشروع الوطني الذي يجمع، فكر بتأسيس جمعية سماها laquo;حزب الإنسانraquo;.

وقد تمنيت عليه استبعاد اسم الحزب الذي استهلك سواه بمعناه السياسي الحديث أو بمعناه الديني القديم، وأن يختار بدلاً من ذلك عبارات أخرى مثل منتدى أو ملتقى أو بيت، هذا مع أنني لم أعد من رافعي شعار الإنسان، بل أصبحت من نقاده.

ولكن لا ضير أن يستخدم الموسوي الشعار الإنساني ما دام هذا خياره. الأهم هو أن تشكّل الجمعية فضاءً لانطلاق المبادرات وممارسة الأنشطة التي تتيح لمن يلتقون فيه أن يصنعوا لهم هويات عابرة لحواجز الطائفة أو العشيرة أو القبيلة.

ولا يعني ذلك الوقوف موقفاً عدائياً من هذه الأطر الأهلية. وإنما يعني أن يمارس الواحد علاقته بهويته الثقافية والمجتمعية بصورة مدنية، ديمقراطية، تبادلية، سلمية. فهذا أحوج ما تحتاج إليه المجتمعات العربية ذات التركيب الطائفي المتعدّد.

هنا أيضا يمكن لأهل البحرين أن يستخلصوا الدرس: فالنموذج الأصولي الجاري تعميمه، سواء على هذا المذهب أو ذاك، والذي هو مصنع لإنتاج العنف الرمزي والمادي، يقود إلى تفكيك الأوطان أو تفجير المجتمعات، كما تشهد نسخه وتطبيقاته في غير بلد عربي.

أخلص من ذلك إلى ندوة أركون التي حضرها وجوه بارزة من المجتمع الثقافي من بحرينيين وعرب مقيمين في المنامة. وقد أدارها الشاعر والإعلامي عبده وازن، وشاركت فيها إلى جانب الشاعر عيسى مخلوف والأستاذ هاشم صالح الذي هو مترجم أركون إلى العربية، والذي يعود له الفضل في أن نقرأه بنص عربي بياني، مع شروحات على الأصل ثمينة وقيمة.

ومع أن المناسبة هي احتفاء بالراحل الكبير، فإني اعترفت بديني المعرفي تجاه أركون، ولكني خرجت عليه كما أتيت منه. ولذا فقد تحدثت عن انجازه، كما تحدثت عن مأزق مشروعه بجانبه الإيديولوجي والتحريري.

ولكن أكثر المثقفين العرب، الحداثيين، يريدون لي أن أتماهى مع أركون أو أكون نسخة عنه أردد أقواله وأقتصر بالكلام على منجزاته. هذا في حين أن التحديث الفكري لا يتمّ بمنطق المماهاة والتقليد، بل بمنطق الخلق والتحول.ولذا فالممكن هو أن ننخرط في المناقشات العالمية، لكي نشارك في صناعة الأفكار.

وإذا كنا فوتنا غير فرصة تاريخية، فالفرصة سانحة الآن، لا سيما وأن معظم شعارات الحداثة كالاستنارة والعقلانية والديمقراطية والحرية والإنسانية، هي على طاولة التشريح، لكي يعاد التفكير فيها، على سبيل التجاوز وإعادة التركيب والبناء. فلا مجال للفصل بين الخصوصي والعالمي، عند من يشتغل بالحقل الفلسفي، فكيف إذا كنا نلج في عصر يتعولم فيه المؤلفون كما تتعولم النصوص والأفكار.