أحمد عبد الملك


أخبرنا التاريخ أن (الديناصورات) قد انقرضت بفعل تغيّرات مناخية وجيولوجية قضت على فصائل (الديناصورات). ولم نسمع أن (سفينة نوح) التي حفظت المخلوقات من كل زوج اثنين كان ضمن ركابها (الديناصورات). وهذه بدهية أن (الديناصورات) قد انقرضت قبل الطوفان. وإذا كان عند أحد شواهد مخالفة سنكون له من الشاكرين!
وشعوب الخليج رغم مظاهر البذخ والصور الدعائية، وملامح الصرف السخي والتوسع في المباهج الاستهلاكية، إلا أنها تعاني مستقبلاً غير محدد الملامح من ناحية تدني معدل الولادات وزيادة أعداد الوفيات، وازدياد أمراض الضغط والسكري والذبحات الصدرية بين أبناء الخليج.
ولقد التقيت مؤخراً بثلاث من الأكاديميات الخليجيات، كان اليأس بادياً على وجوههن الجميلة من آثار التركيبة السكانية، وسياسات التوظيف، وسلوكيات الإدارة العامة في العديد من المؤسسات الخليجية. وكوننا من الأكاديميين، فقد تركز الحديث على مجريات الأمور في الجامعات الخليجية! ودار حول القضايا الإدارية، وتشكّل القرار الأكاديمي وشخوصه، وانحسار أعداد الأكاديميين الخليجيين، في الوقت الذي يُدار العمل من قبل أجانب ndash; ليسوا عرباً ndash; في وظائف دنيا لا تحتاج إلى خبرات تراكمية مثل مُدخلات المعلومات ؛ في الوقت الذي توجد فيه خريجات من نفس المدينة والجامعة تُرفض طلباتهن رغم أنهن من خريجات الأقسام أو الكليات التكنولوجية في نفس الجامعة. كما طال الحديث التخزبات وتوظيف الأقارب والأصدقاء وأصحاب نفس الأيدولوجية في مراكز متنوعة من هذه الجامعات، في الوقت الذي ينحسر العنصر المحلي، ويُحال مبكراً على التقاعد، ولن نتحدث عن الرواتب الخيالية التي تُمنح لهؤلاء، رغم أن العديد من المواطنين أكثر منهم كفاءة وخبرة. ولقد اتفقت الأكاديميات الثلاث على أن الأمور متشابهة في دولهن الثلاث وأن اليأس قد تغلغل في نفوسهن نتيجة المفارقات الإدارية والأكاديمية التي يعايشنها، وهنالك أحاديث ذات شجون عن نمط الإدارة والتوجه في مؤسسات أخرى غير التعليم أو الجامعات، مثل الصحة والإعلام، وكان الرأي أن ازدياد الأعداد المليونية من الوافدين بهذه الصورة المخيفة لا يعّرض هوية البلدان للتلف أو التلاشي، بل يقوّض فرص عمل المواطنين، ويُهدر أموالاً طائلة يتم تحويلها غلى الخارج، في الوقت الذي يُزج بخيرة أبناء الوطن في هيئات التقاعد وإنهاء عُمرهم الافتراضي.
لذا فإن تحوّل مجتمع الخليج إلى أقليات (أقل من %10 في بعض البلدان) يجعل حظ هذه المجتمعات ضئيلاً من الاستفادة من الخدمات العامة كالصحة، ولقد عانى بعض شعوب الخليج من تدني الخدمات الصحية في بلدان تعّد الأغنى عالميا؛ حيث تصل فترة انتظار الكشف (التصوير المقطعي) لأكثر من ثلاثة شهور، ناهيك عن أن 95% من مراجعي أقسام الطوارئ هم من العمال الوافدين، وبالتالي فإن حظ أو نصيب المواطن من خدمات الطوارئ ضئيل جداً؛ ناهيك عن انتظاره الطويل للحصول على نتائج التحليل من المختبر، وتكدس المرضى في الأماكن المخصصة لهم، لعدم قدرة غرف الإقامة المؤقتة على استيعاب كل هذه الأعداد، وتواجهُ المُواطنةُ معاناة كبرى بسبب منافسة الوافدة لها في مستشفيات الولادة، لأن المقيمين يجلبون أخواتهن وخالاتهن للاستفادة من الخدمات الراقية التي تقدمها مستشفيات الولادة في دول الخليج، وهذا يقلص نصيب المواطنة في الاستفادة من تلك المستشفيات، كما أن الذهاب للمستشفيات الخاصة لن يكون متاحاً لكل المواطنين، لأن ليس كل أهل الخليج أثرياء، كما يفهم العالم الخارجي.
إن التعليم والإعلام أصبحا غريبين أو مُغرّبيَن في المنطقة، وكثير من quot; نصائحquot; دُور الخبرة الأجنبية لم تثبت نجاعتها، وكثير من مشاريع تلك الدور أضّرت بالمواطنين، وجعلتهم يعيشون غرباء في أوطانهم، ذلك أن النموذج الانفتاحي ووسائله لم تكن على الخط الأسلم، بل إن تلك quot; النصائحquot; والمشاريع ضاعفت من استيراد الكفاءات الأجنبية، وإيداع الكفاءات المحلية على التقاعد. وهذه الكفاءات صرفت عليها الدول الملايين، ولم تستفد منها وقت العطاء، والأمر ينطبق على سلوكيات وأفكار الجيل الجديد، الجيل الذي يتعلم أن ينسلخ من أمته وثقافتها ولغتها، ومن وطنه وتراثه وتاريخه. ولقد ساعد هذا التغريب حتى في شكل المواطن، فالملابس التي تروجها وسائل الإعلام والمسلسلات تساهم في ذاك الانسلاخ، ناهيك عن العادات الغريبة والأفكار التي تكون ضد الأسرة السعيدة أو الوطن الآمن.
صحيح نحن نريد لأبنائنا أن يتعلموا اللغة الإنجليزية، ولكن عليهم ألا ينسوا اللغة العربية، ونريد لهم أن يتعلموا الكمبيوتر، ولكن عليهم ألا ينسوا التاريخ العربي وفضيلة الانتماء للأسرة والوطن، ونحن نشجع أن يتمأسس الشباب على حرية التعبير وتداول الرأي، ولكن علينا ألا نشجعه أن يقضي طوال الليل في الأحاديث عبر الكمبيوتر أو الدخول إلى المواقع الزرقاء التي تحلق به بعيداً عن أمته وهمومها.
إن الحرية شيء والتسطيح شيء آخر، إن التطور شيء والتأخر شيء آخر.
أعود للأكاديميات الثلاث اللاتي غطّت وجوههن كآبة كربلائية، لأكتشف أنهن يُحببن أوطانهن ويردن لها الأمن والاستقرار والتطور والتنمية، لكنهن في ذات الوقت يسألن عن الإنسان وكيفية تطويره، ما هو مصير الإنسان في ظل تلك الظروف الصعبة والأوضاع البائسة إداريا ونفسياً؟!
هل سينقرض الإنسان ndash; بكل هدوء- ودون تدخلات مناخية أو جيولوجية ؛ كما حدث للديناصورات!؟ علماً بأنه لن توجد (سفينة نوح) أخرى تنقذه من الطوفان، أم سيبقى مثل (الأبوروجني) الأسترالي يعود إلى كهوفه وخيامه كلما زاد ضنك العيش عليه أو تحسّس تهديداً من غزاة!؟ بينما يتلذذ الأجنبي في عماراته وفيلاته ويخوته وسياراته الفارهة!؟