غسان الإمام

السياسة، في غريزتها المتكتمة، تفضِّل اختصار الإعلام. النظام العربي، منذ الاستقلال، أحكم إحاطة قضايا الصراع والخلاف بالأسلاك الشائكة. السياسة تعهد إلى الدبلوماسية بمهمة حجب التفاصيل. بإشاعة التفاؤل عبر الحديث عن الخطوط العامة للقضايا المبهمة.

حجب الواقع الميداني والمعلوماتي وضع أمما وشعوبا، في التاريخ، أمام صدامات وحروب مفاجئة ومهلكة. مداراة لصدّام، حجبت دبلوماسية النظام العربي مقدمات الحرب الإيرانية - العراقية، ثم مقدمات اجتياح الكويت، ليفاجأ العرب بحربين، لم يكونوا على علم باحتمال اندلاعهما. الآن، هناك ظن بأن تفادي الانفجار المحتمل في لبنان، يتم بوضع الأصابع في الآذان، فيما اللبنانيون يتداولون في مجتمعاتهم ولقاءاتهم الحديث عن الخطر laquo;المطلوب السكوت عنهraquo;. من هنا، فغرضي في صحيفة عربية رصينة كـlaquo;الشرق الأوسطraquo;، تعريف الرأي العام وصناع القرار فيه، بخريطة عسكرة لبنان، الخريطة المفترضة لاجتياح دولة الطائفة دولة الطوائف. غرضي أن يدرك الجميع، بمن فيهم السوريون والإيرانيون، ماذا يعني نشوب حرب جديدة في لبنان، من نتائج كارثية عسكرية وبشرية عليه، وربما أيضا على دول المنطقة.

في عسكرة لبنان، فالهدف الاستراتيجي لحزب الله تأمين الوصل الجغرافي والتمويني (اللوجيستي) بين مناطق الكثافة السكانية الشيعية: الجنوب. ضاحية بيروت الجنوبية. سهل البقاع. لتحقيق هذا الوصل، يتعيَّن على الحزب الإقدام على احتلالات واقتحامات.

بوقوف وليد جنبلاط على الحياد، وبفرض حياده على دروزه، وجيرانه المسيحيين في جبل الشوف، يغدو طريق بيروت - دمشق الجبلي الاستراتيجي مفتوحا أمام حزب الله، لوصل عاصمته السياسية (الضاحية الجنوبية) بقاعدته البشرية في سهل البقاع المجاور لسورية.

لتأمين وصوله إلى الجنوب (خزّانه البشري)، يتعين على الحزب تحييد مدينة صيدا، ومخيمها الفلسطيني الأكبر (مخيم عين الحلوة) في لبنان. صيدا ومخيمها شوكة سنية حادة في خاصرة المشروع الشيعي. فمن هذه المدينة، انطلق المشروع السياسي للحريري الأب. وسنّة صيدا أقوى شكيمة، من سنَّة بيروت الأكثر ميلا إلى الضوضاء، خصوصا بعد اجتياح الشيعة لهم في عام 2008.

في المقابل، يستطيع حزب الله الاعتماد على حليف فلسطيني، يتمثل بقاعدة أحمد جبريل العسكرية، على مشارف مدخل البقاع الغربي. وجبريل (79 سنة) عمَّد حلفه العسكري العريق من سورية الأب والابن، باقتراب من إيران مُغْرٍ للشهية، بحيث بات ذخرا laquo;جهادياraquo; لحزب الله في لبنان.

بالإضافة إلى الأحواض السكانية الثلاثة، تمتلك الطائفة الشيعية (نحو 1.5 مليون نسمة) جيوبا سكانية في مناطق مسيحية، أو مناطق مسيحية - درزية. غير أنها لا تملك امتدادا سكانيا في شمال لبنان، باستثناء اعتمادها على الجيوب العلوية في طرابلس ومنطقتي عكار والضنية، حيث النفوذ السوري ينافس نفوذ الحريري، لدى التنظيمات الجهادية السنية المتحركة والنائمة.

الحوضان السكانيان السني والمسيحي أكثر انسجاما وارتباطا، من الأحواض الشيعية المقطعة الأوصال. هذا الانسجام يمنح القوات المدافعة عنهما حرية الحركة. والمناورة. والتعبئة المشتركة. غير أن الضعف في الحوض المسيحي يتجلى في حصار قرى الشيعة لمدينة زحلة الكاثوليكية في سهل البقاع. كما يتجلى في توزع الموارنة على laquo;القوات اللبنانيةraquo; حليفة السنة. وتنظيم laquo;المردةraquo;. وتيار العماد ميشال عون حليفي سورية وإيران، ورديفي حزب الله في لبنان.

إذا تأخرت في الرواية، فلا يعني ذلك أني أُسقط الجيش اللبناني من الحساب. فقد ازداد عُددا وعَددا (نحو مائة ألف جندي)، نتيجة للدعم الأميركي الذي بلغت قيمته مليار دولار. بيد أن هامش المناورة السياسية يضيق أمام رئيس لبناني محايد قادم من قيادة الجيش.

في الحرب، الرئيس / العماد ميشال سليمان حريص على أن لا يتمزق الجيش إلى ألوية طائفية، كما حدث في الحرب السابقة. في السلم، يصمم الرئيس المدني على متابعة الحوار، حول إمكانية استيعاب ميليشيا حزب الله وسلاحه وصواريخه، في الجيش الشرعي، في مقابل تعهد بمشاركة الجيش الحزبَ في مقاتلة إسرائيل.

لكن الشيعة كثيرة الشكوك في الجديِّة القتالية للجيش الذي اقتصر دوره، منذ الاستقلال، على ضبط الأمن الداخلي. وامتد الشك، بحيث قاطع الحزب الشيعي أخيرا مائدة الحوار التي يديرها الرئيس سليمان. أما السنّة والمسيحيون، الأقل تنظيما وتسليحا من الشيعة، فهم يُعَوِّلُون على الجيش لحمايتهم من اجتياح، هو بمثابة انقلاب مسلح، لتقويض الديمقراطية (الطائفية) الفريدة من نوعها في المنطقة.

ما هي النتائج السياسية لعسكرة لبنان؟ واضح أن كفة حزب فيه 40 ألف صاروخ، لـ40 ألف مقاتل ومتطوع، ستكون هي الراجحة مبدئيا. في حرب طويلة الأمد، سيتعرض الحزب إلى الاستنزاف، سيما إذا تمكنت القوى السنية والمسيحية من استكمال تنظيمها وتسليحها.

امتداد أمد الحرب سوف يغري دول الجوار بالتورط فيها. إسرائيل لن تقبل بإمارة شيعية فارسية في شمالها. ولا بإمارة سنية إخوانية في جنوبها. تورط إسرائيل في حرب لبنانية، قد يدفع بسورية أيضا إلى التدخل، لحماية ورقتها التفاوضية الجهادية (حزب الله. حماس. الجهاد).

في حالة تعرض سورية إلى نكسة عسكرية، في مواجهة مع إسرائيل، فقد يُلهب تدخل عسكري تركي داعم لسورية، حربا طويلة عريضة في المنطقة. إسرائيل قد لا تنجو من صواريخ إيرانية مضطرة للانطلاق، تخلصا من الإحراج، في عدم قدرة إيران على إسناد سورية وحزب الله برا.

التدخل والتورط يغريان بالتدخل والتوريط. لأن إسرائيل لا تقوى على خوض حرب تستغرق شهورا، فستضطر الولايات المتحدة الأميركية، أيضا، إلى التورط لإنقاذها.

إذا ترددت إدارة أوباما، فقد يكون رئيس جمهوري، شبيه برعونته للرئيس laquo;دبليوraquo;، قادرا على إتمام المهمة.

وهكذا، فالحروب تندلع لأسباب تافهة تمس الكبرياء. وتنتهي، بعد فوات الأوان، بندم جماعي مفجع. laquo;حزب الطائفةraquo; الذي يكفِّر ويرجم محكمة الحريري الدولية. ويهدد باجتياح دولة الطوائف، إذا لم تقاطع المحكمة. فهو مهدَّد بحرب إلكترونية. لا أتحدث عن حرب افتراضية، في لعبة laquo;فيديوraquo; مسلّية، وإنما عن تحويل لبنان إلى laquo;تورا بوراraquo; أفغانية - باكستانية.

لن أبحث عن سمير جعجع في خرائب laquo;تورا بوراraquo; اللبنانية. عاصم قانصو laquo;قبضايraquo; البعث في لبنان تعهد بتصفية جعجع خلال ساعتين، في قاعدته الجبلية (معراب). سأبحث عن وليد جنبلاط فيلسوف الحياد. لأسأله كيف سيكون laquo;تموضعraquo; الشيعة، إلى جانب دروزه، في استيطان laquo;تورا بوراraquo;، بجبل الشوف.

أما العماد عون، فسأجده حتما مع أقطاب الرأسمالية البرجوازية المارونية، لاجئين إلى laquo;جِنانraquo; الشيعة، هربا من نار البروليتاريا laquo;القوّاتيةraquo;.