معن البياري

استضافَ النبيُّ الأكرمُ محمدٌ، صلى اللهُ عليهِ وسلم، وفداً من نَصارى نجران في مسجدِهِ، وأَذِنَ لهم بإقامة صلواتِهم فيه. وأَنْزَلَ وفداً آخرَ من مسيحيي قبيلة تغلب دارَ رملةَ بنت الحارث، وقد جاءوا مُعلّقينَ صلبانَهم الذهبيّةَ على صدورِهم، وأَقرَّهم على مسيحيَّتِهم.

هاتان واقعتان من بين شواهدَ كثيرةٍ على اعتبارٍ خاصٍّ لدى الإسلام ونبيّهِ والمسلمين للمسيحيّة والمسيحيين، مؤكدٌ أنَّ خفافيشَ القتلِ في ما تسمي laquo;دولة العراق الإسلاميةraquo;، والتي تتلملمُ فيها القاعدةُ وأشباهُها، لا يعرفونَ واحدةً منها.

ولا إضاءتها على الأُخوّةِ الروحيّةِ المؤكّدةِ بين المسلمين والمسيحيين، وقد جاهرَ التنظيمُ المذكورُ بالاعتداءِ المسلَّحِ على كنيسةٍ في بغداد، قضى فيه 37 عراقياً مسيحياً بينهم نساءٌ وأطفال.

وليسَ غريباً أنّ الفعلةَ هذه جاءت بعد يومين من اعتداءِ متطرفين يهودٍ على كنيسةٍ في القدس، وأَنَّ عُدوانيْن انتحارييْن على مسجديْن في باكستان أَعقباها، ما يعني أنّ ملةَ العمى المتعصّبِ واحدةٌ وسلاحَها الكريه واحد.

وما يزيدُ الجريمةَ خِزْياً أنّها جرت بعد انتهاءِ سينودس (جمع) 180 أُسقفاً في الفاتيكان يمثلون كنائس الكاثوليك في الشرق، استمر أسبوعين، ودعا في ندائِه وتوصياتِه الـ44 المسيحيين إلى أنْ يبقوا منفتحين على الجميع وبلا طائفيّة، وقال إنَّ المسيحيين والمسلمين في الشرق الأوسط laquo;يتشاركون في الحياةِ والمصير، ومعاً يبنونَ المجتمعraquo;.

كان طيباً وعظيمَ الأهميّة قولُ اللبناني محمد السمّاك في السينودس، وقد استُضيفَ فيه، إنَّ المحافظة على الحضورِ المسيحيِّ في الشرق واجبٌ إسلاميٌّ عام، بقدرِ ما هو واجبٌ مسيحيٌّ، وفي محلهِ تماماً خشيةُ هذا المثقف الرائق على مستقبل مسلمي الشرق من هجرةِ مسيحييه.

وهذه قضيةٌ ينبغي أن تكونَ كُبرى، لأنّها تضرِبُ بلادَنا في صميمِ عروبتِها وغناها الثقافي، فضلاً عن أنّ العربَ المسيحيين هم السكانُ الأصليون في أوطانِهم، وفي العراق قديمون قِدَم هذا البلد.

ومع نزوحِ العراقيين الكثيرِ من بلدِهم، جرّاءَ نيرانِ الطائفيّةِ المقيتةِ في بلادِهم، والتي اشتعلت مع قدومِ الاحتلال، وجرّاءَ الأوضاعِ السقيمةِ هناك.

والتي سبق بعضُها الاحتلال وزادت رداءةً بعدَه، فإن المُقلقَ هو ما يجوزُ وصفُه بالتصحّر الذي يضربُ هذا البلد بسببِ هجرةِ مسيحييهِ الكثيفةِ منه، وقد انخفض عددُهم منذ 2003 من 450 ألفاً إلى 150 ألفا، مع توالي اعتداءاتٍ تَقصّدتهم واستهدفت كنائِسَهم باعتبارِهم مسيحيين ليس إلا.

وكم كانت مطمئِنةً ودافئةً عباراتُ تحدٍّ أعلنها عراقيون مسيحيون حضروا قُدّاساً في بغداد لتكريمِ ضحايا مقتلة الكنيسة، وشدّدوا فيها على بقائِهم في بلدِهم، وعلى أنْ تظلَّ كنائسُهم مفتوحةً، لأنها laquo;بُنيت على المحبةِ والسلامraquo;، ما بدا، ربما، رداً، على أسقفٍ أخرق في لندن حضَّهم على الهجرة، وعلى استعدادِ فرنسا منحَ مُصابين في الجريمةِ اللجوءَ السياسي.

ليست المسألةُ عراقيةً فقط، فالوجودُ العربيُّ المسيحيُّ في أوطانِه، وهو مكوِّنٌ أكثر من أساسيٍّ فيها، يتناقصُ، مثلاً، في لبنان الذي ارتكبَ مسيحيون من أهلِه إغاراتٍ وتصفياتٍ ضد مسيحيين آخرين من أهلِه فاقَ ما تعرّضوا له جميعُهم من خصومهم في أثناءِ الحربِ الأهليةِ وما بعدها.

ويتناقصُ هذا الوجودُ أيضاً في مصر لأسبابٍ يخصُّ بعضها مسلمي هذا البلد الذي لكلِّ العرب المحبين له الحقُّ في أن يدُسّوا أنوفَهم في شأنِه، ما يجعلُ ما يتوالى فيه من احتكاكاتٍ طائفيةٍ شأناً يَخُصّنا ويُقلقنا.

ولأنَّ أَسبابِ تناقصِ وجودِ مسيحيينا بيننا غيرُ قليلة، ويُشابِهُ بعضُها أسبابَ خروجِ مسلمين عديدين منها، لنرى، إذن، الظاهرةَ باعتبارِها تهديداً لمحتوى العروبةِ الحقّة.

والذي تُختتمُ هذه السطور بالتنويهِ بالدورِ الثقافيِّ والحضاريِّ، البالغِ الغنى والأهمية، للعربِ المسيحيين في تأكيدِه. ونظنُّ كمال صليبي أصابَ كثيراً، لمّا قال، (قُبيل جريمةِ بغداد)، إنَّ العالمَ العربيَّ إذا خلا من النّصارى لا يعودُ ممكناً آنذاك تسميتُه عربياً.