محمد نور الدين

لا يزال قادة العسكر في تركيا يعيشون أمجاد نفوذهم السابق الذي لم يكن يقف في وجهه أحد . وهم استمدوا هذا النفوذ من عوامل تاريخية في نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث كان لفلول الجيش الذي قاده مصطفى كمال اتاتورك دوره الحاسم في تحرير تركيا وتوحيدها لتظهر على الساحة الدولية دولة جديدة اسمها الجمهورية التركية في عام 1923 .

وشأن كل الدول القومية في المنطقة كان الجيش حارس الجمهورية الجديدة ومرشدها ومحاميها وقاضيها وشاعرها ورسامها وماسح الأحذية وسائق التاكسي فيها .

كان الجيش كل شيء في تركيا . وضع الأسس الأيديولوجية للجمهورية فكان شعار ldquo;هنيئاً لمن يقول أنا تركيrdquo;، مستبعداً بذلك كل المجموعات الاثنية الأخرى ولا سيما الأكراد، وفرض على المذاهب والطوائف علمانية ما أنزل الله بها من سلطان حتى في أم العلمانيات أي فرنسا . وكان الخوف أيضاً من المدنيين وتهويماتهم فكان الانقلاب عليهم كل عشر سنوات .

وقعت تركيا في المحظور نظام استبدادي أقرب إلى نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ولم يكن بعيداً عن نظرة الحركة الصهيونية في ldquo;إسرائيلrdquo; في تعاملها الإجرامي مع الفلسطينيين . قسّم الجيش التركي المجتمع التركي إلى كانتونات: كردية ومذهبية وإسلامية وعلمانية وفقيرة وغنية وعسكرية ومدنية هي في أساس كل مشكلات تركيا الحالية . منع الحجاب في الجامعات ودعا الطالبات للذهاب إلى السعودية للتعلم . وشكّل منظمات سرية (فضحها القضاء لاحقاً) نفّذت عمليات اغتيال ضد الناشطين اليساريين ولا سيما بعد انقلاب سبتمبر/ أيلول 1980 . وحاول إبادة كل ما يمت بصلة إلى الديمقراطية والحريات فتحوّلت تركيا إلى مقبرة للأحزاب المحظورة والسياسيين المسجونين، وحوّل كل المحيط الجغرافي المجاور لتركيا إلى أعداء لها .

وما الذي لم يفعله الجيش ليحوّل تركيا إلى بلد طرفي وهامشي وإلى بلد منبوذ في محيطه وتابع للغرب وrdquo;إسرائيلrdquo; .

اليوم وعلى الرغم من كل الإصلاحات في الداخل التي قلّصت نفوذ العسكر وتدخله في السياسة لا يزال قادته يتصرفون كأن شيئاً لم يتغير .

خرج رئيس الحكومة مساء الثاني عشر من سبتمبر/ أيلول الماضي بعد نجاح الإصلاحات في الاستفتاء بنسبة 58 في المئة قائلاً إن نظام الوصاية العسكرية قد انتهى . لكن قادة العسكر لم يسمعوا بذلك ومضوا إلى التأسيس لدولتين ونظامين وجمهوريتين . رفضوا المشاركة في الحفل الرسمي الذي أقامه رئيس البلاد عبدالله غول لمناسبة ذكرى إعلان الجمهورية وأقاموا في الساعة عينها حفلاً مستقلاً لهم . اعترضوا على مشاركة زوجة الرئيس المحجبة ldquo;خير النساءrdquo; . نسوا أن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة وأن غيابهم هو تمرد على القائد الأعلى .

ونسوا أن عهد ldquo;الحرملكrdquo; الذي كان يحجر على النساء في العهد العثماني، هم أنفسهم جددوه وحافظوا عليه بل كانوا أسوأ من نظام الحرملك العثماني . أسسوا نظام ldquo;الحرملك الجمهوريrdquo; الذي كان يمنع الفتاة من التعلم في الجامعة لأنها محجبة .

كانوا يريدون أن يفرضوا على غول ليس فقط استبعاد زوجته عن الحفل بل كيف لها أن ترتدي ثيابها وألوانها وماذا تأكل ومتى ترتاح . تدخل الجيش في الصغيرة والكبيرة ولم يحترموا حتى رئيس جمهوريتهم . هذا الجيش كان وجهه الآخر العلاقات مع ldquo;إسرائيلrdquo; . بفضل ارتباطات الجيش التركي بrdquo;إسرائيلrdquo; أمكن له أن يواصل استبداده بالسلطة في تركيا، وبقدر ما كانت العلاقات التركية مع ldquo;إسرائيلrdquo; تتراجع كان الجيش قلقاً على ldquo;أمه الحنونrdquo; .

نعم وليس في ذلك أي افتئات، وإلا فلماذا تخرج رئاسة الأركان ولا سيما نائب الرئيس الجنرال أصلان غونير ليعد تقريراً يحذّر فيه من مواصلة العلاقات العسكرية مع سوريا وتعميقها لسبب واحد هو أنها تغضب ldquo;إسرائيلrdquo;؟ وهل المصالح الوطنية التركية التي تتطلبها علاقات ممتازة مع سوريا تتحدد وفقاً للمزاج ldquo;الإسرائيليrdquo;؟ ومتى كانت تريد ldquo;إسرائيلrdquo; مصالح تركيا؟ ولماذا لم تتحرك الشهامة العسكرية التركية عندما هاجمت ldquo;إسرائيلrdquo; سفينة مرمرة في عرض البحر وقتلت تسعة أتراك في عدوان مكشوف على السيادة التركية؟ ومتى كانت العلاقات مع بلد مغتصب وعدواني وسرطاني ومحتل وغريب عن المنطقة أهم من علاقات مع بلد مجاور وأصيل هو سوريا مثلاً وله حدود 800 كلم وعلاقاتهما تضرب في عمق التاريخ آلاف السنين؟

إنها المرة الثانية خلال شهرين التي يظهر العسكر سلوكاً يتعارض مع توجهات السلطة السياسية: مرة بمقاطعة حجاب خير النساء ومرة بمحاولة عرقلة التعاون مع سوريا .

لكن الزمن لن يتوقف وتركيا ستعود إلى محيطها كاملة، وليست عراقيل الجنرالات أمام سياسات تركيا في الداخل والخارج سوى الشهب الأخير للشمعة قبل انطفائها الكامل .