حيدر محمد
بعد أكثر من 200 يوم من المشاحنات الشاقة والخصومات والتقاطعات وتدخلات الجوار وغير الجوار، عاد العراقيون لينتخبوا نوري المالكي مجدداً. غير أن ذلك يدفع للتساؤل، لماذا عادوا - على نحو يشبه الإجماع - ليتمسكوا بتلابيب الرجل ثانية؟
ربما يأخذ الكثيرون على المالكي إصراره على التشبث بالسلطة طوال الأشهر الثمانية التي أعقبت ثاني انتخابات تشريعية شهدها العراق الجديد، وهو مأخذ أشاطرهم في بعضه، بيد أن الأمر الأكثر أهمية هو الإجابة الواقعية عن سر نجاح نوري المالكي في البقاء لأربع سنوات أخرى على سدة أكثر عواصم المنطقة اضطراباً.
في صدد الإجابة عن هذا التساؤل يمكن القول إن ثمة أسباباً عديدة أو حزمة من الدوافع تقف خلف العودة للرجل الذي قاد العراق في مرحلة ذروة العواصف السياسية والطائفية، وفي ذروة العنف والعمليات الإرهابية من منطق التكفير والمتطرفين من بقايا النظام السابق، وفي ذروة الميليشيات التي كانت تعارض منطق الدولة وفي ذروة الانقسام الحاد بين شركاء العملية السياسية الذين يعمل جزء كبير منهم وكلاء لخيارات خارج خريطة العراق.
نجح نوري المالكي خلال سنوات حكمه الأكبر في إيقاف مسلسل العنف الطائفي الذي خططت له أجهزة المخابرات الخارجية، فحين جاء المالكي للسلطة كانت الجراح الطائفية والتاريخ سيشهد أن الرجل غالب الصعاب من أجل بسط هيبة الدولة، وإعادة الثقة لمؤسساتها.
لا يعني ذلك أن نوري المالكي منزه من أية أخطاء أو هفوات سياسية، ولكن نية الرجل هي البناء، وحتى ماضيه في حزب الدعوة الإسلامية لم يجعل المالكي محصوراً بين جدرانه الأربعة، لذلك استطاع المالكي أن يفوز باكتساح في انتخابات مجالس المحافظات.
كثيراً ما كان المالكي ينادي بمشروع الوحدة في العراق، وكون علاقة واسعة مع العشائر العراقية في مختلف أرجاء بلاد الرافدين. وكاد المالكي أن يدفع ثمن جرأته السياسية في البوح بالحقيقة التي لا يستطيع الكثيرين قولها. وقراءة متأنية بمنظار مجرد ستقودك إلى الثقة بأن ما تحقق في حكومة الوحدة الوطنية لم يكن صفراً قياساً للكم الهائل من العقبات السياسية والطائفية والأمنية والخدماتية.
من واقع تقديري أننا سنشهد نوري المالكي بمواصفات مختلفة، لأن الحكومة العراقية المقبلة ستكون هشة، ولا يملك المالكي فيها الصوت الراجح، فالوزارات وحتى السيادية منها ستكون مقسمة على اللاعبين الرئيسيين في المشهد السياسي العراقي. وأجواء المشاحنات السابقة والحادة التي عاصرها العراق خلال الفترة الماضية ستترك بدون أدنى ريب بصماتها على عمل الحكومة وستحد من قدراتها في معالجة التحديات الرئيسية التي تواجهها، والتي تتمثل في إعادة الاستقرار السياسي وكبح جماح العنف الذي يضرب المدنيين من كل الأديان والطوائف والتيارات.
على مستوى المنطقة حان الوقت لانفتاح دول الجوار على المالكي ليس بصفته الشخصية ولا بميراثه السياسي وإنما لحقيقة كونه الرجل الذي يقود حكومة واحدة منتخبة تمثل جميع العراقيين وحازت ثقة البرلمان. وشاءت الأقدار أن يكون الرجل محل توافق بين النقيضين السياسيين الأكثر تأثيراً في الشأن العراقي واشنطن وطهران.
فلسفة المالكي التي كان يعمل بها أنه ليس مهماً أن يرضى عنك السياسيون طالما أن رجل الشارع البسيط بعفويته والذي لا يعرف المناورات واثق من النية والإرادة. ينبغي ألا يخذل الساسة طموحات العراقيين البسطاء في معالجة الاستحقاقات العراقية التي يفرضها الواقع بإلحاح شديد.
باختصار، المالكي ليس بالضرورة هو الخيار السياسي الوحيد المناسب، ولكنه أفضل الخيارات الواقعية.
مأخذي الوحيد على صفقة تقاسم السلطة - الذي نتمنى أن يصمد طويلاً - أنها لم تخلق تغييراً حقيقياً لا في المواقع ولا في الواجهات بل وحتى في الشخوص. وبقي أن نقول إن حكومة المالكي المقبلة ستكون في كل الأحوال تحت المجهر على أمل أن تقود مشروعاً يخرج العراق من سوداوية الوضع إلى فضاء الأمل. سيكون ذلك ممكناً إذا أوقفت أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية لعبة صناعة الموت واليأس في بغداد.
التعليقات