توفيق رباحي

1

عاش المغاربة، وإعلامهم بالخصوص، أسبوعا استثنائيا منذ الثامن من الشهر الجاري بسبب أحداث مخيم اكديم ايزيك الذي أقامه صحراويون غاضبون قرب مدينة العيون، ثم ما لبث أن تحوّل الى مشكلة تؤرق أكثر من جهة.
دون أدنى استعداد وجد الإعلام المغربي، خصوصا المرئي منه، نفسه يخوض حربا على أكثر من جبهة وأكبر من إمكانياته وتجاربه، واحدة باتجاه الشمال (اسبانيا) والأخرى باتجاه الشرق (الجزائر).
في الحالة الأولى لأن جزءا من الإعلام الاسباني انحرف عن دوره وسقط في التزييف والتضليل وحتى الكراهية والعنصرية، حسب وجهة النظر المغربية. وفي الحالة الثانية لأن الإعلام الجزائري، والتلفزيون بالذات، تحوّل الى ناطق باسم سكان مخيم العيون وجبهة البوليزاريو التي وظفت أحداثه لصالحها.
يوم الامتحان يكرم المرء أو يهان! لم يختلف حال التلفزيونات المغربية في هذه المحنة عن أحوال كل التلفزيونات العربية التي لا تضع في حساباتها الامتحانات العسيرة الى أن تجد نفسها مضطرة لخوضها.
أتذكر هنا التلفزيون السوداني والسوري والجزائري والمصري، كلُ في وقائع معينة، أو عندما يواجه 'الأسياد' محنة قومية أو حربا دبلوماسية فيطلبون من التلفزيون أن يتولاها نيابة عنهم. ولا داعي للتذكير أن الفشل هو النتيجة الطبيعة التي لا يمكن انتظار غيرها.
كي تكون قويا في أوقات الشدة، يجب أن تكون أقوى قبلها. وكي تصمد في حرب، يجب أن تضعها في قائمة الاحتمالات الواردة إليك ثم تستعد لها.
لا علينا، جميعنا أبعد ما نكون عن هذه الحقيقة.
ربما ليس من الصواب الحكم هل فشل الإعلام التلفزيوني المغربي في هذه الحرب أم انتصر. ذلك أن الفشل كان من نوع آخر.. إداري فاستخباراتي ثم دبلوماسي (والاخفاقات الاستخباراتية والدبلوماسية المغربية في موضوع الصحراء كثيرة ومتكررة في السنوات الأخيرة، وليس هذا مقامها). يحق لأي عاقل أن يتساءل عن تفاصيل قيام آلاف الصحراويين بنصب مئات الخيم؟ وكيف تبدأ خيمة واحدة ثم في لمح بصر تصبح مئات تؤوي 15 أو 20 ألف شخص.. مدينة كاملة أقيمت في غفلة من الدولة والسلطات. كذلك يحق التساؤل لماذا وصل الأمر بالناس الى إطلاق ذلك الاحتجاج، الذي أعتبره بصدق أفضل طريقة غضب توصل إليها العقل البشري.
تلكم هي الأسئلة التي لم يطرحها الإعلام المغربي المتلفز، رغم أنها طُرحت في بعض الصحف المكتوبة المصنفة معارضة. لكن مَن يقرأ الصحف ويتفاعل معها، علما بأن الصحف المغربية مجتمعة وباللغتين، تطبع أقل من صحيفة جزائرية واحدة في يوم عادي.
إذا كُتب للمغرب أن يواجه في المستقبل محنة كالتي انفجرت في وجهه يوم الثامن من الشهر الجاري، وحمّلت الحكومة الإعلام وزر خوضها نيابة عنها، فإني لا أستغرب أن نعيش مجددا السيناريو ذاته، أقصد الإرباك والضعف ذاتهما.
هذه ليست حروب الإعلام مهما كانت أخطاء الخصم أو الخصوم. في أحسن الأحوال يلعب الإعلام، والمتلفز على وجه الخصوص، دور الرافد المكمل. إنها حرب من أدوات الانتصار فيها الديمقراطية والانفتاح الإعلامي وتقبل الرأي الآخر والانتقادات. أما أن تدير اليوم قضية تعتبرها وطنية ومقدسة بأدوات الحرب الباردة، فلن تجد غير الإرباك والفشل حليفين.
هل هذا ممكن الآن ـ في المغرب أو غيره من الجيران والأقربين؟ لا.

2

غير ممكن لأن الحكومة المغربية، مثلا، لا تسمح للطواقم التلفزيونية بزيارة العيون منذ بداية الأحداث. أن تمنع فرق الإعلام الاسباني والجزائري (رغم أن الأخير يعتبر العيون مثل القدس تُمنع زيارتها تحت الاحتلال!)، هذا له ما يبرره بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه. لكن المنع امتد الى الآخرين على ما يبدو، وقد تعبت أمام الشاشات انتظارا لمراسل تلفزيوني يراسل من العيون أو صورا حية من عين المكان، فلم أعثر على شيء. وحرصت طيلة الايام الماضية على متابعة نشرات الأخبار في التلفزيونات المغربية، 'اتم' و'دوزيم' و'ميدي1 تي في'، فلم اشاهد أي جديد. لا وجود لقنوات التلفزيون المغربي بالعيون. أو لنقل هي موجودة لكن لا عمل لها ولا أثر، بل في العيون ذاتها هناك مقرات وفروع لقنوات تلفزية محلية وأخرى قومية، لكن في الليلة الظلماء يُفتقد البدر!
الصور الوحيدة المتوفرة بعد عشرة أيام من الأحداث هي نفسها تتكرر، التقطتها وتبثها الجهات الرسمية بعد غربلتها بشكل يتوافق مع التوجه الرسمي. واللافت أنها (الصور) ليس عليها أي إشارة أو 'دمغة' تحيل الى أصحابها أو حصريتها لجهة ما، كما جرت العادة في مثل هذه الأحداث بحيث تنام لوغوهات المحطات الواحدة فوق الأخرى حتى تضيق شاشات التلفاز.
ليس مستبعدا أن قنوات التلفزيونات المغربية تقوم بعمل يومي يُحفظ للأرشيف أو للتوظيف عند الحاجة كأن يستعين به المحققون الأمنيون.

3

هناك أمر لم نصل إليه بعد وأتمنى أن لا نصل، وهو أن تُستدعى فرق تلفزيونية الى مراكز التحقيق لتسجيل صور واعترافات المقبوض عليهم وهم يعترفون بأشياء ووقائع مبالغ فيها أو لا أساس لها من الصحة.
لقد جربت حكومات أخرى هذه الأساليب وكانت النتائج عكس المطموح إليه، حتى مع عتاة المجرمين والإرهابيين. الناس في مجتمعاتنا لهم استعداد فطري للتعاطف مع
المضطهدين والمقبوض عليهم عندما يظهرون في الشاشات يثيرون الشفقة أكثر من اي شيء آخر. ليس بالضرورة حبا فيهم أو تضامنا معهم، بل لأن السجّان هو تلك الحكومة المنبوذة المرفوضة، ولأن الواسطة هو ذلك التلفزيون الذي يمثل أداة حكم مثله مثل الإدارة والقضاء والشرطة والسجون. نعم يشاهدون أدق التفاصيل بعيون لا يرف لها جفن، لكنهم في العمق يلفظون الفعل في حد ذاته.
هذا ما يبرر التشكيك الذي يؤدي الى فشل العملية ككل.

4

لعل كثيرين منكم تساءلوا مثلي عن التغطية التي كانت ستقوم بها قناة 'الجزيرة' لأحداث العيون لو أطال الله عمرها في الرباط.
يقيني أن هذه الأحداث كان ستأتي بأجل 'الجزيرة' أيا كان ما قالت أو فعلت. فما جرى بالعيون ـ بالنظر الى الزمان والمكان والسياق ككل ـ هو من نوع الأحداث التي لا يمكن تغطيتها إلا بتلفزيون رسمي موجه تشرف عليه مباشرة وزارة الإعلام أو جهاز المخابرات (ولا عيب أو ضرر في هذا في بلداننا، بل شيء مألوف لا يجب أن يستحي منه أحد). لا يمكن أن يُترك آخرون يغطون هذا النوع من الأحداث، لأنها تحتاج الى عمل من نوع خاص اسمه بروبغاندا.
وقد قرأت في مكان ما مقالا فيه أن السلطات المغربية عجّلت باجتثاث القناة القطرية تحسبا لاقتحام مخيم ايزيك أكديم!
لهذا قلت في مقال سابق (5 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري) بهذا المكان إن الطلاق الذي حدث بين الحكومة المغربية و'الجزيرة' لم يكن مفاجئا لأنه كان مسألة وقت لا غير، والسؤال منذ البدء كان: متى، وليس هل؟

5

أعرف سلفا أن ما سبق من كلام لا يعجب قطاعا واسعا من المغاربة، خصوصا العاملين في الإعلام والسياسة.. يكفي أنه يأتي من جزائري دخلت حكومته طرفا في المواجهات ـ الإعلامية والتلفزيونية على الأقل ـ ليشكل عنوان إدانة مسبقة.
سأتجاوز كل هذا وأدعو هؤلاء الى قليل من الواقعية وشيء من عدم الانفعال: لقد اخطأت حكومتكم كثيرا في موضوع الصحراء الغربية، وما 'العيون' إلا نتيجة منطقية لما تراكم من أخطاء وإرباك على امتداد السنوات الأخيرة.
سقى الله ايام الملك الحسن الثاني.