كمال علي الخرس

laquo;رب كلمة قالت لصاحبها دعنيraquo; حكمة عربية.
لطالما تحدث العقلاء والحكماء على أن ليس كل ما يعرف يقال، وأنه إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وأن الكلام الطائش يكون أحياناً أشد وطأ من السيف البتار.
كثير من دول العالم والمجتمعات المنتشرة في المعمورة يتحدثون عن أن حرية التعبير والرأي والكلمة يجب ألا تكون مطلقة لا تحكمها ضوابط، نعم السكوت عن الحق صمت شيطاني، ولكن يجب أن يكون للكلام والتعبير ضوابط بالذات أخلاقية وقيمية واعية تحمل قدرا كبيرا من الانضباط والحس بالمسؤولية. الكلام والتعبير بأشكاله وصوره الصادر بلا قيود ولا ضوابط قد ينهمر بشكل مدمر كقصف المدافع فيحطم مستقبل أفراد بل أمم، ويهتك الأعراض، ويشتت الأسر، وينشر الفضائح، ويزعزع العلاقات بين الدول المتجاورة.
الغرب الديموقراطي له رأي آخر في حرية التعبير وحرية الكلمة، فحرية التعبير بأشكاله هو عين المثالية بغض النظر أحياناً عما يقال وعن نوعية وشكل التعبير، فمن يعبر عن رأيه فهو مثالي، والدولة التي تسمح بوسائل التعبير والكلمة بأقل ضوابط ممكنة هي الأكثر تطوراً وتمدناً وحتى إنسانية. ولا بأس إن كانت حريات التعبير هذه تقود إلى صراع طائفي أو مذهبي أو عرقي، ولا بأس إن كانت تدافع عن الفساد وانتشاره، فحرية التعبير والكلمة أياً كانت هي بنظرهم قيمة أخلاقية مثالية.
فبدعوى حرية الكلمة تحرك الدول الغربية الشارع في دول وأنظمة تخالفها فتنشر فيها الفوضى وتقود الاضطرابات، وبدعوى حرية التعبير تحرك جيوشا من الشواذ جنسياً مثلاً ليعبروا عن مشاعرهم الشاذة، ولا بأس إن كانوا يزعزعون بذلك قوائم المجتمع الأخلاقية. وباسم حرية التعبير تهاجم رموزا دينية وأنبياء تحترمهم البشرية فتشعل الفتن والكراهية بين البشر. وباسم حرية التعبير والكلمة تنتشر في المجتمعات المحافظة والمستقرة المتوازنة البذاءات والسباب وتنتشر الفضائح وتشيع أجواء الانحطاط بمستويات وأشكال مختلفة وعبر وسائط اتصالات متعددة من فضائيات ومواقع شبكية الكترونية وغيرها.
نعم، فليذهب أمن المجتمعات واستقرارها، وأخلاق الأسر والعادات الطيبة، وثقافات الأمم الرصينة وتآلفها وترابطها وتسامحها إلى الجحيم، كل ذلك لأجل عين معشوقة الغرب الديموقراطي المدعوة laquo;بحرية التعبيرraquo;.
ولكن ما إن قام laquo;موقع ويكيليكسraquo;، والذي يجب أن توضع علامات استفهام حول نشأته وأهدافه ومن يقف خلفه، بنشر وثائق سرية مهمة عن محادثات رسمية أميركية حتى جن جنون ما يسمى بالعالم الحر، فوزيرة الخارجية الأميركية اعتبرت التسريبات بأنها لا تمثل فقط هجوماً على الولايات المتحدة وإنما تمثل هجوماً على المجتمع الدولي بأسره. وبريطانيا تدين نشر الوثائق، وفرنسا تعلن تضامنها مع الإدارة الأميركية وتعتبر نشر الوثائق بأنه قد يشكل تهديداً للسلطات الديموقراطية! وآخر يطالب بتصنيف laquo;ويكيليكسraquo; كمنظمة إرهابية، وثاني يصفها بأنها أخطر من هجمات سبتمبر 11. فقط إسرائيل الوحيدة من تلك المجموعة التي أعلنت شعورها بالارتياح من نشر الوثائق، طبعاً لأنها تعتاش على الفوضى والاضطراب والفتن وتشارك في صناعتها.
من هذه التصريحات تنعكس الحقيقة بأن الفضيحة ليست في التقارير المهمة التي نشرها laquo;موقع ويكيليكسraquo;، ولكن الفضيحة الكبرى هي في ردود فعل الديموقراطيات الغربية الكبرى عليها. والحقيقة أنه عند قراءة تلك التصريحات المتشنجة من دعاة حرية الكلمة والتعبير فإن المرء لا يملك نفسه من الزهزقة ضحكاً على ضحالة تفكير هؤلاء الزعماء والمسؤولين عند رؤيتهم يرتعشون من ضربات سوط لطالما سلطوه على ظهور خصومهم وهي حرية الكلمة والتعبير.